المتاحف المغمورة بالمياه
يرتبط تاريخ المتاحف المغمورة بالمياه بتطور علم الآثار البحرية منذ منتصف القرن العشرين، حين بدأت فرق الغوص والاكتشاف العلمي بالكشف عن مدن وموانئ وآثار غارقة تحت سطح البحر. في البداية، كانت الاكتشافات تقتصر على بقايا سفن ومعادن وقطع فخارية، لكن سرعان ما تطورت أساليب البحث لتشمل توثيق المواقع الغارقة بالكامل.
من أبرز اللحظات في هذا التاريخ اكتشاف مدينة هيراكليون الغارقة في خليج أبي قير بمصر، التي أعادت تسليط الضوء على أهمية التراث البحري في العالم العربي. ومع تطور تقنيات الغوص والتصوير تحت الماء، بدأت مشاريع متخصصة في عرض هذه المواقع كمتاحف مفتوحة، تتيح للغواصين والباحثين وحتى السياح فرصة التفاعل المباشر مع الآثار في بيئتها الأصلية.
تُمثل المتاحف المغمورة بالمياه اليوم شكلاً متقدماً من المتاحف غير التقليدية، حيث تجمع بين الحفاظ على التراث، والبحث العلمي، وتقديم تجربة ثقافية فريدة في عمق البحر.
1. ما هي المتاحف المغمورة بالمياه؟
المتاحف المغمورة بالمياه هي مواقع أثرية أو فنية تقع تحت سطح البحر أو الأنهار أو البحيرات، وتُعرض فيها بقايا حضارات أو قطع فنية في بيئتها الأصلية المائية. تنشأ هذه المتاحف إما نتيجة غرق طبيعي لمدن وموانئ قديمة بفعل الكوارث الطبيعية مثل الزلازل وارتفاع منسوب البحر، أو تُصمم عمدًا كمعارض تحت الماء تجمع بين الفن وحماية البيئة. يزور هذه المتاحف الغواصون والباحثون، وأحيانًا يمكن مشاهدتها عبر غواصات أو منصات زجاجية خاصة.
تعد هذه المتاحف وسيلة فريدة للحفاظ على التراث الثقافي المغمور، كما تسهم في تعزيز السياحة البيئية والعلمية، وتوفير تجارب ثقافية مختلفة. من أبرز الأمثلة عليها مدينتا هيراكليون وكانوب الغارقتان قرب الإسكندرية في مصر، اللتان كشفتا عن معابد وتماثيل وآثار نادرة. وبهذا، تمثل المتاحف المغمورة جسرًا بين الماضي والحاضر، وتُعد من أبرز أشكال المتاحف غير التقليدية في العالم.
2. أنواع المتاحف المغمورة و كيفية زيارتها
أولًا: أنواع المتاحف المغمورة بالمياه
1. مواقع أثرية غارقة طبيعيًا
وهي بقايا مدن أو موانئ أو معابد قديمة غرقت بفعل الزلازل أو ارتفاع منسوب البحر أو تغيّرات جيولوجية.
مثال: مدينة هيراكليون الغارقة في مصر، والميناء الفينيقي في صور -لبنان.
2. متاحف تحت الماء مصمّمة حديثًا
تُنشأ عمدًا تحت الماء وتضم تماثيل أو أعمالًا فنية حديثة، غالبًا لأغراض بيئية وسياحية.
مثال عالمي: متحف كانكون تحت الماء في المكسيك (ليس في الوطن العربي، لكن نموذج عالمي معروف).
3. حطام السفن والمراكب التاريخية
يُحافظ على السفن الغارقة في موقعها، وتُعرض كجزء من التراث البحري، خاصة إذا كانت تعود لفترات تاريخية هامة.
مثال: حطام السفن العثمانية قبالة سواحل سواكن -السودان.
ثانيًا: كيفية زيارة المتاحف المغمورة
1. الغوص المباشر
- يتطلب مستوى معين من التدريب على الغوص.
- يُنظّم عادة برفقة مرشدين أثريين أو سياحيين متخصصين.
- يُعد الطريقة الأكثر شيوعًا للتفاعل المباشر مع القطع المغمورة.
2. الغواصات السياحية الصغيرة أو الكابينات الزجاجية
- مناسبة لمن لا يستطيع الغوص.
- تسمح بمشاهدة المواقع من داخل مركبة تحت الماء.
- تُستخدم في المواقع العميقة أو المحمية.
3. المنصات الزجاجية أو المراسي الطافية
- تُثبّت على سطح الماء فوق الموقع الغارق.
- توفر نظرة بانورامية من الأعلى عبر أرضيات شفافة.
4. الواقع الافتراضي والتجارب الرقمية
- تُستخدم عندما يصعب الوصول الفعلي للموقع.
- تتيح جولات افتراضية عالية الدقة باستخدام تطبيقات أو نظارات VR.
تُعد المتاحف المغمورة تجربة فريدة تمزج بين الاستكشاف العلمي والمتعة البصرية، وهي تمثل مستقبلًا واعدًا لحفظ وعرض التراث بطريقة مبتكرة ومستدامة.
3. أهمية التراث المغمور
أهمية التراث المغمور تبرز من خلال قيمته الحضارية، الثقافية، والعلمية، فهو يشكل جزءًا أصيلًا من الهوية التاريخية التي لا تزال مخفية تحت سطح الماء، ولكنه يعكس بوضوح العمق الزمني والتنوع الثقافي الذي شهده العالم العربي عبر العصور. وفيما يلي أهم الجوانب التي توضح هذه الأهمية:
1. توثيق حضارات منسية
التراث المغمور يكشف عن مدن وموانئ وأبنية غارقة تُعيد تشكيل فهمنا لتاريخ الشعوب الساحلية، مثل مدينة هيراكليون في مصر أو الموانئ الفينيقية في لبنان، التي ظلت لقرون مدفونة تحت البحر.
2. دليل على التفاعل الحضاري
تُظهر المكتشفات المغمورة مدى التبادل التجاري والثقافي بين العرب والحضارات الأخرى عبر البحر المتوسط والبحر الأحمر، مما يؤكد الدور المحوري للمنطقة في الربط بين الشرق والغرب.
3. قيمة سياحية واقتصادية
يمثل التراث المغمور موردًا مهمًا للسياحة الثقافية والبحرية. فالمتاحف تحت الماء ومواقع الغوص الأثري تجذب الزوار والباحثين، وتساهم في دعم الاقتصاد المحلي.
4. أداة تعليمية وعلمية
تتيح دراسة الآثار المغمورة للعلماء والطلاب فرصًا فريدة لفهم تغيرات المناخ، وطرق البناء القديمة، وأساليب الملاحة، مما يجعلها مصدرًا ثمينًا للبحث الأكاديمي والتقني.
5. الحفاظ على الذاكرة الجماعية
يساعد التراث المغمور على استرجاع قصص الشعوب القديمة، ويعزز الانتماء الثقافي، وخاصة في المجتمعات الساحلية التي ترتبط هويتها بالبحر.
إن التراث المغمورليس مجرد بقايا مدن غارقة، بل هو سجل حيّ من ذاكرة الأمة، ومورد ثقافي واقتصادي وعلمي ينبغي حمايته واستثماره بوعي، لما يحمله من إمكانات لإعادة قراءة التاريخ العربي من زاوية بحرية فريدة.
4. التحديات والحماية
التحديات الرئيسية:
- التلوث البحري والتغير المناخي
- النشاطات البشرية المدمرة مثل الصيد بالديناميت
- نقص الوعي بأهمية هذا التراث
- صعوبة الوصول والاستكشاف
- التكاليف المرتفعة للحفظ والصيانة
جهود الحماية:
- اتفاقية اليونسكو لعام 2001 لحماية التراث الثقافي المغمور
- المشاريع الإقليمية للحفاظ على التراث البحري
- التعاون الدولي في مجال علم الآثار البحرية
- برامج التوعية والتعليم
خاتمة
تشكل المتاحف المغمورة بالمياه نافذة فريدة على أعماق التاريخ حيث تلتقي الحضارات الغابرة بعالمنا المعاصر في بيئة طبيعية لا تزال تحتفظ بأسرارها. إن هذا النوع من المتاحف لا يقتصر على كونه موقعا اثريا غارقا بل هو شاهد حي على تفاعل الإنسان مع البحر عبر العصور وعلى الكوارث والتحولات البيئية التي غيرت ملامح المدن والموانئ.
تبرز اهمية المتاحف المغمورة بالمياه في قدرتها على الجمع بين البحث العلمي وحماية التراث والسياحة الثقافية مما يجعلها موردا ثمينا للدول التي تحتضنها. كما أنها تتيح للزوار تجربة استثنائية لمعايشة التاريخ من منظور غير تقليدي وتدعو الى اعادة التفكير في طرق حفظ التراث الثقافي وتوسيع مفهوم المتحف خارج الجدران المغلقة.
ان الاستثمار في المتاحف المغمورة بالمياه ليس مجرد ترف ثقافي بل هو خطوة استراتيجية نحو حفظ الهوية وتعزيز الاقتصاد الثقافي البحري ودعم السياحة المستدامة في الوطن العربي. ومن الضروري دعم البحوث الاثرية تحت الماء وتطوير البنية التحتية لتمكين الجمهور من الوصول الى هذا التراث والتفاعل معه بشكل آمن وفعال.
مراجع
1. التراث الثقافي المغمور بالمياه
المؤلف: د. خالد عبد الفتاح
المحتوى: يناقش أهمية التراث الغارق في مصر، وخاصة في الإسكندرية، ويعرض منهجيات البحث تحت الماء.
2. علم الآثار البحرية: مدخل إلى دراسة التراث الغارق
المؤلف: د. عبد الحميد الحمداني
المحتوى: يقدم نظرة شاملة على المفاهيم النظرية والعملية لعلم الآثار البحرية وتطبيقاتها في الوطن العربي.
3. الآثار الغارقة في الساحل المصري: دراسة تاريخية وأثرية
المؤلف: د. حسين عبد البصير
المحتوى: يتناول أشهر المواقع الغارقة في البحر المتوسط، مع صور وتحليلات علمية دقيقة.
4. التراث الثقافي غير المادي والتراث الغارق
المؤلف: مجموعة باحثين -الألكسو
الناشر: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم
المحتوى: يربط بين مفهوم التراث غير المادي والتراث الثقافي المغمور، مع دراسات حالة من الدول العربية.
5. آثار مصر الغارقة: الاكتشافات الجديدة في خليج أبي قير
المؤلف: فرانك غوديو (ترجمة عربية)
المحتوى: يعرض مشروع الكشف عن مدينة هيراكليون وكانوب، ويضم صورًا عالية الجودة ووثائق تاريخية مهمة.
مواقع الكترونية
1.موقع اليونسكو -التراث الثقافي المغمور بالمياه
رابط: https://www.unesco.org
يحتوي على اتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه، وأمثلة على مواقع غارقة عالمية، ومنها في الدول العربية.
2.موقع الهيئة العامة للآثار المصرية -الآثار الغارقة
رابط: http://www.antiquities.gov.eg
يعرض معلومات حول مشاريع التنقيب تحت الماء في خليج أبي قير، ومنها مدينتا هيراكليون وكانوب.
3.موقع الإسكندرية تحت الماء -مكتبة الإسكندرية
رابط: https://www.bibalex.org/underwaterarchaeology
مبادرة تابعة لمكتبة الإسكندرية تهدف لتوثيق ودراسة التراث الغارق، وتحتوي على صور ومراجع علمية.
4.موقع مركز الأبحاث البحرية بلبنان -جامعة البلمند
رابط: https://www.balamand.edu.lb/underwater
يتناول الدراسات البحرية في السواحل اللبنانية، ويتضمن مشاريع بحثية حول مواقع غارقة في صور وصيدا.
اترك تعليق جميل يظهر رقي صاحبه