📁 آخرالمقالات

بحث حول التقنية الرقمية وتأثيرها على التقاليد والثقافة والقيم الاجتماعية لدى المجتمع

التقنية الرقمية وتأثيرها على التقاليد والثقافة والقيم الاجتماعية

تعتبر التقنية الرقمية من أهم العوامل التي أحدثت تحولات كبيرة في حياة الأفراد والمجتمعات خلال العقود الأخيرة. تأثير التقنية الرقمية على الثقافة والتقاليد أصبح واضحاً من خلال التغيرات التي طرأت على طرق التواصل ونقل المعرفة، بالإضافة إلى التأثير على القيم الاجتماعية الراسخة في المجتمعات المختلفة. فانتشار الوسائط الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي أتاح فرصًا غير مسبوقة لتبادل الثقافات والأفكار، لكنه في الوقت ذاته أدى إلى تحديات كبيرة تتعلق بالحفاظ على الهوية الثقافية والتقاليد المتوارثة. 

بحث حول التقنية الرقمية وتأثيرها على التقاليد والثقافة والقيم الاجتماعية لدى المجتمع

تأثير التقنية الرقمية على الثقافة والتقاليد يظهر جلياً في تغير أنماط الحياة والعادات اليومية، مما يثير تساؤلات حول كيفية التوفيق بين التطور التكنولوجي والحفاظ على الأصالة الثقافية. لذا، يأتي هذا البحث ليقدم دراسة معمقة حول تأثير التقنية الرقمية على الثقافة والتقاليد والقيم الاجتماعية، مع التركيز على الجوانب الإيجابية والسلبية لهذا التأثير، بالإضافة إلى استعراض الطرق التي تساعد في حماية التراث الثقافي في ظل التطور الرقمي المستمر.

 الفصل الأول: الإطار المفاهيمي والنظري

—> 1. مفهوم التقنية الرقمية

تشير التقنية الرقمية إلى استخدام الأجهزة والبرمجيات التي تعتمد على البيانات الرقمية (Digital Data) في تشغيلها ونقلها ومعالجتها. وتعتمد التقنية الرقمية بشكل رئيسي على النظام الثنائي (0 و1) الذي تُحوّل من خلاله المعلومات إلى إشارات يمكن للأنظمة الرقمية فهمها ومعالجتها بكفاءة.

في سياق الحياة اليومية، تشمل التقنية الرقمية مجموعة واسعة من الأدوات مثل: الهواتف الذكية، أجهزة الحاسوب، الإنترنت، وسائل التواصل الاجتماعي، التطبيقات الذكية، الواقع الافتراضي، الذكاء الاصطناعي، الحوسبة السحابية، تقنيات التشفير والمعاملات الرقمية وغيرها.

من منظور علوم الإعلام والاتصال، لا يُنظر إلى التقنية الرقمية فقط كأدوات مادية، بل يُنظر إليها باعتبارها بيئة تواصلية جديدة تعيد تشكيل أنماط التفاعل والتفكير والسلوك، وتؤثر في البنية الاجتماعية والثقافية بطرق معقدة. فهي تمثل نقلة نوعية في طريقة إنتاج وتبادل واستهلاك المعلومات، مما يؤثر على الإدراك الجماعي، ويغير من مفاهيم مثل الخصوصية، الهوية، المشاركة، والانتماء.

وقد أتاحت التقنية الرقمية إمكانيات كبيرة في نشر المعرفة والوصول إلى المعلومات، لكنها في المقابل تطرح تحديات تتعلق بموثوقية المعلومات، الهيمنة الثقافية الرقمية، وتغير أنماط الحياة التقليدية.

وباختصار، فإن مفهوم التقنية الرقمية لم يعد محصوراً في الجانب التكنولوجي فقط، بل أصبح مفهوماً متعدّد الأبعاد له امتدادات اجتماعية، ثقافية، نفسية واقتصادية، تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على حياة الأفراد والمجتمعات.

—> 2. مفهوم الثقافة والتقاليد والقيم الاجتماعية

تُعدّ الثقافة من المفاهيم المركزية في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهي تعني مجموعة المعارف، والمعتقدات، والفنون، والقوانين، والعادات، والرموز، والسلوكيات التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع. الثقافة تعبّر عن الهوية الجماعية وتمثل الإطار المرجعي الذي من خلاله يفهم الأفراد العالم من حولهم ويتفاعلون معه.

أما التقاليد فهي تمثل الجانب الموروث من الثقافة، وتشمل الممارسات والطقوس والعادات الاجتماعية التي تُنقل من جيل إلى جيل، وغالباً ما ترتبط بمناسبات دينية أو قومية أو مجتمعية. تؤدي التقاليد دوراً مهماً في تعزيز الانتماء والاستمرارية التاريخية داخل الجماعة، وتعمل كوسيلة لتنظيم الحياة اليومية وتعزيز الترابط الاجتماعي.

أما القيم الاجتماعية فهي المبادئ والمعايير التي تُحدد ما هو مقبول أو مرفوض في المجتمع. وتشمل مفاهيم مثل الاحترام، التعاون، الصدق، العدالة، الولاء، التسامح وغيرها. تعمل القيم على توجيه السلوك الاجتماعي وتنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات، وهي تُكتسب من خلال التنشئة الاجتماعية، التعليم، والدين، ووسائل الإعلام.

وتشكّل الثقافة والتقاليد والقيم معاً بنية رمزية واجتماعية متكاملة تعبّر عن هوية المجتمع، وتُسهم في المحافظة على تماسكه واستقراره. لكن هذه البنية ليست جامدة، بل تتأثر بالعوامل الخارجية كالتكنولوجيا، والانفتاح الثقافي، والعولمة، ما يجعل دراستها في ظل التحولات الرقمية مسألة ضرورية لفهم طبيعة التغيير الاجتماعي في العصر الحديث.

—> 3. نظريات الإعلام والتغيير الثقافي

تُعد نظريات الإعلام أدوات تحليلية لفهم الكيفية التي تؤثر بها وسائل الإعلام على المجتمعات، لا سيما في سياق التغيير الثقافي. ومن خلال هذه النظريات يمكن تفسير آليات التحول التي تطال القيم والتقاليد والهوية الثقافية نتيجة الاستخدام الواسع للتقنيات الرقمية. ومن أبرز هذه النظريات:

 1. نظرية الغرس الثقافي (Cultivation Theory):

طرحها جورج جربنر، وتفترض أن التعرض المستمر لوسائل الإعلام، وخاصة التلفزيون، يؤدي إلى تشكيل تصور مشترك للواقع لدى الجمهور. مع تطور الوسائل الرقمية، أخذت هذه النظرية بعداً أوسع، حيث تُساهم وسائل التواصل الاجتماعي في غرس مفاهيم جديدة عن الجمال، النجاح، وأنماط العيش، مما يغيّر من البنية الثقافية تدريجياً.

 2. نظرية الاستخدامات والإشباعات (Uses and Gratifications Theory):

تُركّز هذه النظرية على الجمهور بوصفه فاعلاً يسعى لاستخدام وسائل الإعلام لتحقيق حاجاته ورغباته، سواء في الترفيه أو التعلم أو الهروب من الواقع. وهذا الاستخدام المتكرر يُفضي إلى تغير في التفضيلات الثقافية والأنماط السلوكية، ما يؤدي تدريجياً إلى تغيّر في القيم السائدة.

 3. نظرية الأجندة (Agenda-Setting Theory):

تفترض هذه النظرية أن وسائل الإعلام لا تُخبر الناس بما يفكرون فيه، ولكنها تُحدد لهم ما يجب أن يفكروا فيه. ومن خلال تسليط الضوء على قضايا ثقافية معينة وتهميش أخرى، يتم إعادة ترتيب أولويات المجتمع الثقافية وإعادة صياغة أنماط التفكير الجماعي.

 4. نظرية الهيمنة الثقافية (Cultural Hegemony):

طورها أنطونيو غرامشي، وتُفيد بأن النخب تستخدم وسائل الإعلام لنشر قيمها وثقافتها كمعايير عامة. في السياق الرقمي، تهيمن ثقافات عالمية على المحلية، مما يهدد التقاليد ويضعف الهوية الثقافية الأصلية.

هذه النظريات تُمكّن من فهم كيف أصبحت وسائل الإعلام الرقمية عاملاً مركزياً في إحداث التغيير الثقافي، من خلال ما تبثّه من رموز ومعانٍ تؤثر في الوعي الجمعي والتقاليد الاجتماعية.

—> 4. العلاقة بين الإعلام الرقمي والتحولات المجتمعية

يشكل الإعلام الرقمي أحد أبرز محركات التحول في المجتمعات المعاصرة، حيث أدى إلى تغييرات عميقة في البنية الثقافية والاجتماعية والقيمية للأفراد والجماعات. وتكمن قوة الإعلام الرقمي في كونه لا يكتفي بنقل المعلومة، بل يعيد تشكيل طريقة إنتاجها وتلقيها وفهمها. من هنا، تظهر العلاقة الوثيقة بين الإعلام الرقمي والتحولات المجتمعية، ويتجلى ذلك في عدة أوجه:

 1. إعادة تشكيل أنماط التواصل:

غيّرت الوسائط الرقمية آليات التفاعل الاجتماعي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى تجاوز حدود الزمان والمكان، وخلق فضاءات جديدة للتواصل الافتراضي أثّرت على أشكال العلاقات الأسرية، والروابط المجتمعية، والهوية الفردية.

 2. تغيّر المرجعيات القيمية:

مع الانفتاح على ثقافات متنوعة وسهولة الوصول إلى محتويات مختلفة، بدأ الأفراد، لا سيما الشباب، في تبني أنماط فكرية وسلوكية جديدة، أحياناً على حساب القيم والتقاليد المحلية. وهذا ما يؤدي إلى تصادم أو تداخل بين القيم المحلية والعالمية.

 3. التحول في الوعي السياسي والمدني:

أصبح الإعلام الرقمي أداة مهمة لتشكيل الرأي العام وتحفيز المشاركة السياسية والمدنية، من خلال الحملات الإلكترونية، وحركات الوعي المجتمعي، ومناهضة الفساد، مما ساهم في بروز أشكال جديدة من المشاركة الديمقراطية.

 4. تبدّل مصادر السلطة والتأثير:

لم يعد التأثير حكراً على المؤسسات الإعلامية التقليدية، بل أصبح الأفراد والمجموعات يملكون أدوات للتأثير وتوجيه النقاشات العامة، مما أسهم في كسر垄 الاحتكار المعلوماتي وأدى إلى ديناميكيات جديدة في بناء القوة الرمزية داخل المجتمعات.

 5. تسارع التغير الثقافي والاجتماعي:

أدى الإعلام الرقمي إلى تسارع غير مسبوق في وتيرة التغير الثقافي، حيث أصبحت القيم، والتقاليد، وحتى اللغة تخضع لتحولات سريعة، يصعب أحياناً ضبط آثارها أو التنبؤ بمساراتها المستقبلية.

إن العلاقة بين الإعلام الرقمي والتحولات المجتمعية تُعد علاقة تفاعلية ومتعددة الأبعاد، بحيث يعمل كل منهما على تشكيل الآخر بصورة مستمرة، ما يستدعي قراءات نقدية متعمقة للتعامل مع آثار هذا التحول بشكل متوازن.

 الفصل الثاني: التحولات الثقافية والاجتماعية في ظل الرقمنة

—> 1. تأثير التقنية الرقمية على العادات والتقاليد

لقد أسهمت التقنية الرقمية في إحداث تغييرات جذرية في أسلوب حياة المجتمعات، ومن أبرز هذه التغيرات ما طرأ على العادات والتقاليد التي كانت تشكل نسيجاً اجتماعياً متماسكاً عبر الأجيال. فقد أصبحت الوسائط الرقمية تلعب دوراً محورياً في صياغة سلوك الأفراد وتوجهاتهم اليومية، مما أدى إلى إعادة تشكيل بعض العادات أو تآكلها تدريجياً.

 أولاً: التحول في أنماط الحياة اليومية

تغيرت كثير من الطقوس والعادات المرتبطة بالتواصل الاجتماعي بفعل الاعتماد على التكنولوجيا. فمثلاً، تراجعت اللقاءات العائلية المباشرة، وحلّت محلها المحادثات الرقمية، ما أثر على تقاليد التآلف الأسري وصلة الرحم.

 ثانياً: تراجع بعض الممارسات التقليدية

أدت التقنية إلى إهمال بعض العادات الاجتماعية مثل المجالس التقليدية، والاحتفاليات المجتمعية ذات الطابع المحلي، حيث يفضل الكثيرون الآن الفعاليات الرقمية أو الترفيه الفردي عبر الإنترنت.

 ثالثاً: إدخال تقاليد جديدة

أفرز العالم الرقمي أشكالاً جديدة من العادات، كطقوس "اللايك" و"المشاركة"، والاحتفال بالمناسبات على المنصات الرقمية، وهي تقاليد حديثة تعيد تشكيل مفاهيمنا عن المشاركة الاجتماعية والانتماء الثقافي.

 رابعاً: ازدواجية الهوية الثقافية

يؤدي التفاعل الدائم مع ثقافات أخرى من خلال المحتوى الرقمي إلى إدخال أنماط سلوكية غير مألوفة في البيئة الثقافية المحلية، ما يخلق نوعاً من الازدواجية أو الصراع القيمي لدى الأفراد، خاصة فئة الشباب.

إن تأثير التقنية الرقمية على العادات والتقاليد ليس سلبياً فقط، بل يمكن أن يحمل بعض الجوانب الإيجابية كتيسير التعلم ونشر الوعي، إلا أن الأثر البالغ على الاستمرارية الثقافية يتطلب فهماً عميقاً لهذه التحولات ووضع آليات لحماية الهوية المجتمعية.

—> 2. التغير في أنماط التواصل والعلاقات الاجتماعية

شهدت أنماط التواصل والعلاقات الاجتماعية تغيرات جوهرية نتيجة التطور الكبير في التقنية الرقمية، خاصة بعد الانتشار الواسع للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. فقد أفضى هذا التحول الرقمي إلى إعادة تشكيل شبكة العلاقات الاجتماعية، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، وأدى إلى بروز نماذج جديدة من التفاعل الاجتماعي تختلف كثيراً عن النماذج التقليدية التي كانت تقوم على التواصل المباشر واللقاءات الوجاهية.

 أولاً: اختصار المسافات وتوسيع شبكات العلاقات

مكنت التقنية الرقمية الأفراد من التواصل مع الآخرين في مختلف أنحاء العالم لحظة بلحظة، مما أدى إلى اتساع رقعة العلاقات الاجتماعية، لكن في كثير من الأحيان على حساب عمق وجودة هذه العلاقات.

 ثانياً: تراجع العلاقات التقليدية

أثّرت الوسائط الرقمية على العلاقات الأسرية والمجتمعية التقليدية، حيث أصبحت اللقاءات العائلية والمناسبات الاجتماعية أقل حضوراً، واستُبدلت برسائل نصية أو تفاعلات افتراضية قد تفتقر إلى العاطفة والتفاعل الإنساني المباشر.

 ثالثاً: صعود العلاقات الافتراضية

ظهرت علاقات اجتماعية جديدة نشأت في بيئة الإنترنت، بعضها قوي ومستمر، والبعض الآخر سطحي وعابر، كما ساعدت هذه البيئة على تكوين مجتمعات رقمية تقوم على الاهتمامات المشتركة أكثر من الانتماءات الجغرافية أو العائلية.

 رابعاً: تغير قواعد التفاعل الاجتماعي

أعادت الوسائط الرقمية تعريف مفاهيم الخصوصية، واللباقة، والذوق العام في التفاعل الاجتماعي، فبات للأفراد "هوية رقمية" مختلفة أحياناً عن شخصياتهم الواقعية، مما أحدث نوعاً من الانفصال بين السلوك الحقيقي والسلوك الافتراضي.

إن التغير في أنماط التواصل بفعل التقنية الرقمية يعكس تحولات عميقة في البنية الاجتماعية، ويطرح تحديات جدية تتعلق بترسيخ القيم المجتمعية، والحفاظ على التوازن بين التواصل الرقمي والتواصل الإنساني الحقيقي.

—> 3. التحولات في القيم الأسرية والدينية

أحدثت التقنية الرقمية تحولات عميقة في البنية القيمية للمجتمعات، خاصة في ما يتعلق بالقيم الأسرية والدينية. ومع تسارع وتيرة استخدام الوسائط الرقمية، تغيرت الأدوار التقليدية داخل الأسرة، وتأثرت مفاهيم التدين والانتماء الروحي لدى فئات مختلفة، وخصوصًا لدى الشباب.

 أولاً: التأثير على القيم الأسرية

التقنية الرقمية أثّرت في نمط الحياة العائلية وقلّصت من التواصل الحقيقي بين أفراد الأسرة، حيث باتت الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية تحتلّ جزءًا كبيرًا من وقت أفراد الأسرة، مما أدى إلى تفكك نسبي في العلاقات الأسرية. كما غيّرت من أنماط التربية، حيث أصبحت المنصات الرقمية مصدرًا أساسيًا للمعلومات والسلوكيات بدلاً من الآباء والأمهات، مما قلل من الدور التربوي المباشر للأسرة.

 ثانياً: التحول في مفهوم السلطة الأبوية

أدى توفر المعرفة وسهولة الوصول إلى المعلومة إلى تراجع الهيبة التقليدية للسلطة الأبوية، حيث بات الأبناء يطلعون على أفكار وثقافات من خارج محيطهم الأسري، ما خلق نوعًا من الاستقلالية الفكرية قد تتعارض أحيانًا مع قيم الأسرة وثوابتها.

 ثالثاً: التأثير على القيم الدينية

أسهم الإعلام الرقمي في تعزيز الوعي الديني لدى البعض، خاصة من خلال الوصول إلى محاضرات وعلماء ومصادر متنوعة، لكنه في الوقت ذاته فتح المجال لانتشار الخطابات المتطرفة أو المشوشة، وخلط بين المرجعيات الصحيحة وغير الصحيحة. كما أن بعض المحتويات الترفيهية الرقمية تسهم في تغييب القيم الروحية، وتفضيل المتعة الفورية على الانضباط الديني.

 رابعاً: التحدي بين الأصالة والمعاصرة

تعيش القيم الأسرية والدينية حالة تجاذب بين الأصالة والمعاصرة، حيث يواجه الأفراد ضغوطًا بين المحافظة على الهوية الثقافية والدينية، والانخراط في ثقافة رقمية عابرة للحدود قد تحمل معها منظومات قيمية مغايرة.

إن التحولات التي تشهدها القيم الأسرية والدينية بفعل التقنية الرقمية تفرض على المجتمعات مراجعة أساليب التنشئة، وتطوير خطاب ديني وأسري معاصر قادر على مواكبة العصر دون التفريط في الثوابت.

—> 4. الأمثلة الواقعية من المجتمعات العربية

تمثل المجتمعات العربية ميدانًا غنيًا لرصد تأثير التقنية الرقمية على الثقافة والتقاليد والقيم الاجتماعية، إذ تتداخل في هذه المجتمعات عوامل تاريخية ودينية وقومية، ومع ذلك فإنها تشهد تغيرات متسارعة بفعل الاستخدام الواسع للتكنولوجيا الحديثة ووسائل الإعلام الرقمية.

 أولاً: التحولات في دول الخليج العربي

في دول الخليج، مثل السعودية والإمارات وقطر، شهدنا تزايدًا لافتًا في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وظهور "المؤثرين" كمصدر رئيسي لتشكيل الرأي العام والسلوك الاجتماعي. بعضهم ساهم في تعزيز قيم إيجابية كالتطوع وريادة الأعمال، في حين روّج البعض الآخر لثقافة استهلاكية سطحية، بعيدة عن التقاليد المحلية. كما أن التحولات الرقمية أثرت في علاقة الشباب بمفاهيم كالزواج التقليدي والأدوار الأسرية، مما خلق فجوة بين الأجيال.

 ثانيًا: مصر والمغرب وتونس – التفاعل مع الخطاب الديني

في دول مثل مصر والمغرب وتونس، أدى الانفتاح على المحتوى الديني الرقمي إلى تعدد المرجعيات، وتوسع الجدل حول قضايا الهوية والحداثة والتجديد الديني. على سبيل المثال، أصبحت قنوات يوتيوب ومواقع الفتاوى مجالًا للتفاعل والنقاش المفتوح، مما ساهم في كسر المركزية التقليدية للمؤسسات الدينية، وأثار تحديات تتعلق بالمصداقية وضبط الخطاب الديني.

 ثالثًا: التأثير على اللغة والعادات

في كثير من الدول العربية، لوحظ تراجع تدريجي في اللغة العربية الفصحى لدى الأجيال الجديدة لصالح "اللغة الهجينة" (عربية ممزوجة بالفرنسية أو الإنجليزية)، خاصة في المحتوى الرقمي. كما تراجعت بعض العادات الاجتماعية التقليدية مثل الجلسات العائلية، أو الالتزام بالمناسبات الدينية والاجتماعية، بسبب انشغال الأفراد بعوالمهم الرقمية الخاصة.

 رابعًا: الشباب والتغير الثقافي

الشباب العربي أصبح أكثر عرضة للتأثر بثقافات عالمية عبر المنصات الرقمية، مما أدى إلى إعادة تشكيل القيم والمثل العليا لديهم. يظهر ذلك في الاهتمام المتزايد بالمظهر الخارجي، والاستهلاك السريع للترفيه، والابتعاد عن بعض الأطر القيمية التقليدية كالاحترام المطلق للسلطة الأسرية أو تقديس الأعراف الاجتماعية.

بالتالي، فإن التجارب العربية تؤكد أن التقنية الرقمية باتت فاعلًا قويًا في المشهد الثقافي والاجتماعي، مما يفرض على المؤسسات التربوية والدينية والثقافية تطوير أدوات جديدة للحفاظ على التوازن بين الحداثة والأصالة.

 الفصل الثالث: الإيجابيات الاجتماعية والثقافية للتقنية الرقمية

—> 1 . نشر الثقافة والمعرفة وتبادلها

أحد أبرز الأدوار الإيجابية للتقنية الرقمية يتمثل في قدرتها على نشر الثقافة والمعرفة وتبادلها بين الأفراد والمجتمعات بصورة غير مسبوقة. فقد أتاحت الوسائط الرقمية، مثل الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي والمكتبات الإلكترونية، فرصًا واسعة للوصول إلى كم هائل من المعلومات والموارد الثقافية والعلمية، دون حواجز زمانية أو مكانية.

من خلال التطبيقات والمنصات الرقمية، أصبح بإمكان الأفراد التعلّم الذاتي، والانخراط في دورات تعليمية مفتوحة، وقراءة الكتب والمقالات العلمية، ومشاهدة البرامج الوثائقية بلغات متعددة. هذه الثورة المعلوماتية ساهمت في تعزيز الوعي الثقافي والفكري، خاصة بين الشباب، وساعدت في توسيع آفاقهم المعرفية.

كما ساهمت التقنية الرقمية في حفظ التراث الثقافي من خلال رقمنته وتوثيقه إلكترونيًا، مما أتاح إتاحته للعامة والباحثين، وساعد على حماية المواد التراثية من الاندثار أو الضياع. وبفضل هذا التحول، أصبحت المتاحف الافتراضية، والمكتبات الرقمية، ومواقع التراث العالمية متاحة للجميع، وهو ما عمّق من معرفة الأجيال الجديدة بهويتهم الثقافية.

وفي سياق التبادل الثقافي، مكّنت التقنية الرقمية الأفراد من التواصل مع ثقافات أخرى، وتعلم لغات مختلفة، وفهم أنماط حياة متنوعة، مما ساهم في تعزيز مفاهيم الحوار والتسامح الثقافي والانفتاح على الآخر.

إجمالاً، فإن نشر الثقافة والمعرفة وتبادلها من خلال التقنية الرقمية يُعد من أبرز العوامل التي ساهمت في بناء مجتمع معرفي عالمي، يقوم على تقاسم الموارد الفكرية والتراثية، ويدعم التنوع والتعايش بين الثقافات.

—> 2. الحفاظ على التراث من خلال الرقمنة

تُعد الرقمنة إحدى أبرز الوسائل الحديثة التي ساهمت بشكل فعّال في الحفاظ على التراث الثقافي وحمايته من الضياع أو التلف بفعل الزمن أو الكوارث الطبيعية أو النزاعات. من خلال تحويل المواد التراثية إلى صيغة رقمية، يمكن توثيق وحفظ المخطوطات، والوثائق، والأعمال الفنية، والمباني التاريخية، والقطع الأثرية، بشكل يضمن بقائها متاحة للأجيال القادمة.

تتيح الرقمنة إنشاء قواعد بيانات ومكتبات رقمية متخصصة تحتوي على صور عالية الدقة، وملفات صوتية، وفيديوهات، تُسهّل الوصول إلى هذه المواد من أي مكان في العالم. هذا ليس فقط يساعد الباحثين والمؤرخين في دراسة التراث بشكل أدق وأشمل، بل يتيح للجمهور العادي التعرف على تراثه الثقافي وتعزيزه.

كما تساعد الرقمنة في توفير نسخ احتياطية يمكن استخدامها لاستعادة المواد الأصلية في حال تعرضها للتلف أو السرقة، مما يعزز من استدامة وحماية التراث الوطني والعالمي. إضافة إلى ذلك، تساهم الرقمنة في نشر الوعي بأهمية التراث الثقافي وتشجيع المجتمعات على المحافظة عليه.

من خلال منصات رقمية تفاعلية، يمكن للناس التفاعل مع التراث بطرق جديدة ومبتكرة، مثل الجولات الافتراضية في المتاحف والمواقع الأثرية، مما يعزز ارتباط الأفراد بهويتهم الثقافية ويشجع على التفاعل الثقافي.

بالتالي، يعتبر الحفاظ على التراث من خلال الرقمنة خطوة استراتيجية ضرورية لمواكبة التطور التكنولوجي، والحفاظ على الهوية الثقافية، وضمان استمرارية نقل القيم والتقاليد للأجيال القادمة.

—> 3. تقوية الروابط الاجتماعية رغم البعد الجغرافي

تلعب التقنية الرقمية دوراً مهماً في تقوية الروابط الاجتماعية بين الأفراد والمجتمعات، حتى عندما تفصلهم مسافات جغرافية واسعة. فقد أوجدت وسائل الاتصال الرقمية مثل الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، وتطبيقات المراسلة الفورية، بيئات افتراضية تسمح للناس بالتواصل المستمر والمباشر بغض النظر عن موقعهم الجغرافي.

تمكّن هذه الوسائل الأفراد من الحفاظ على علاقاتهم الاجتماعية والعائلية، ومشاركة الأخبار والأحداث اليومية، والتعبير عن المشاعر والدعم المتبادل، مما يعزز من شعور الانتماء والارتباط الاجتماعي. كما تسهل التقنية الرقمية تنظيم اللقاءات الافتراضية، المؤتمرات، والفعاليات الاجتماعية والثقافية التي تجمع بين أفراد من أماكن مختلفة، ما يدعم التفاعل الإنساني ويقلل من أثر البعد المكاني.

بالإضافة إلى ذلك، تساهم التقنية الرقمية في بناء مجتمعات افتراضية تتشارك الاهتمامات والقيم، سواء كانت مجتمعات ثقافية، دينية، مهنية أو اجتماعية. هذه المجتمعات توفر منصة لتبادل المعرفة والخبرات، وتعزيز التضامن والتعاون بين أعضائها.

وبالرغم من الفوائد الكبيرة لهذه التقنية في تعزيز الروابط الاجتماعية، إلا أنه يجب مراعاة تحديات مثل الانعزال الاجتماعي الواقعي والإدمان على التواصل الافتراضي، مما يستدعي استخدام التقنية بحكمة وبشكل متوازن للحفاظ على جودة العلاقات الإنسانية.

بالتالي، تظل التقنية الرقمية أداة فعالة في تقوية الروابط الاجتماعية رغم البعد الجغرافي، مما يساهم في تعزيز التماسك الاجتماعي والمحافظة على الهوية الثقافية والمجتمعية في عالم معولم ومتغير.

—> 4. دعم المشاركة المجتمعية والسياسية

تلعب التقنية الرقمية دوراً محورياً في دعم المشاركة المجتمعية والسياسية، حيث وفرت منصات رقمية متعددة تتيح للأفراد التعبير عن آرائهم والمشاركة في النقاشات الاجتماعية والسياسية بشكل أوسع وأسرع من السابق. فقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي، والمدونات، ومنصات الفيديو في تحفيز المشاركة الجماهيرية، وتنظيم الحملات والمظاهرات، وتعزيز الوعي بالقضايا العامة.

تسمح التقنية الرقمية بفتح قنوات اتصال مباشرة بين المواطنين والجهات الحكومية أو المؤسسات، ما يعزز من شفافية العمليات السياسية ويزيد من مساءلة المسؤولين أمام المجتمع. كما توفر هذه الوسائل إمكانية نشر المعلومات والأخبار بشكل فوري، مما يرفع من مستوى الوعي السياسي ويشجع على اتخاذ قرارات مدروسة.

علاوة على ذلك، تتيح التقنية الرقمية فرصاً للتعبير عن التنوع الثقافي والاجتماعي، مما يساعد على تمثيل فئات ومجموعات كانت مهمشة في السابق، ويساهم في بناء مجتمعات أكثر شمولية وتقبلاً للاختلافات.

مع ذلك، يجب التنبه إلى تحديات مثل انتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة التي قد تؤثر سلباً على المشاركة السياسية، مما يستدعي تعزيز التربية الإعلامية والرقمية لضمان استخدام هذه الأدوات بشكل مسؤول وفعّال.

بالتالي، تعتبر التقنية الرقمية أداة قوية وضرورية لدعم المشاركة المجتمعية والسياسية، تعزز الديمقراطية، وتدعم التفاعل الإيجابي بين الأفراد والمؤسسات، مما يسهم في تعزيز التنمية المستدامة والتماسك الاجتماعي داخل المجتمع.

 الفصل الرابع: السلبيات والمخاطر على الثقافة والتقاليد

—> 1. طمس الهوية الثقافية بسبب المحتوى الأجنبي

يُعد طمس الهوية الثقافية نتيجة لتأثير المحتوى الأجنبي من أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات في ظل انتشار التقنية الرقمية ووسائل الإعلام الحديثة. مع تزايد الوصول إلى منصات الإعلام الرقمية العالمية، يتعرض الأفراد، خاصة الشباب، لكميات ضخمة من المحتوى الأجنبي الذي يحمل قيمًا وعادات تختلف عن ثقافتهم الأصلية. هذا التعرض المكثف يؤثر على تصورهم لذاتهم وهويتهم، وقد يؤدي إلى تبني نمط حياة وثقافة تختلف عن تلك التي نشأوا عليها.

المحتوى الأجنبي غالبًا ما يكون جاذبًا بسبب احترافية الإنتاج والتجديد المستمر في المواضيع، مما يجعل المحتوى المحلي أحيانًا أقل تنافسية. ونتيجة لذلك، تتراجع مكانة القيم والتقاليد المحلية، ويحدث نوع من التداخل أو الاستبدال الثقافي الذي قد يؤدي إلى تآكل الهوية الوطنية.

هذا الطمس لا يقتصر فقط على العادات والتقاليد، بل يمتد إلى اللغة، حيث تبدأ الألفاظ والعبارات الأجنبية في الانتشار بين المستخدمين، مما يؤثر على اللغة الأم ويهدد استمراريتها.

لمواجهة هذه الظاهرة، من الضروري تعزيز المحتوى الثقافي المحلي على المنصات الرقمية، وتشجيع الإنتاج الإعلامي الذي يعكس الهوية والقيم الوطنية، بالإضافة إلى دعم البرامج التعليمية التي تنمي الوعي الثقافي لدى الأفراد وتساعدهم على التمييز بين ما يحافظ على هويتهم وما يهددها.

—> 2. تقليد الأنماط الغربية وإضعاف القيم المحلية

يُعتبر تقليد الأنماط الغربية أحد الظواهر الملحوظة في المجتمعات التي تتعرض لتأثير التقنية الرقمية ووسائل الإعلام الحديثة، حيث تنشأ توجهات جديدة بين الأفراد، خاصة الشباب، نحو تبني أساليب حياة وقيم وسلوكيات غربية، مما يضعف القيم والتقاليد المحلية.

تنتشر من خلال وسائل الإعلام الرقمية مثل التلفزيون، الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي صور وأسلوب حياة غربية تروج لمفاهيم الحرية الفردية، الاستهلاك، المظاهر الخارجية، وأحيانًا نماذج سلوكية بعيدة عن القيم الأسرية والدينية المتجذرة في المجتمع. هذا التقليد قد يؤدي إلى صراعات بين الأجيال، حيث يرفض الشباب القيم التقليدية التي تربوا عليها، ويتجهون إلى اعتماد أنماط حياة جديدة قد تكون متناقضة مع بيئتهم الثقافية والاجتماعية.

من ناحية أخرى، يؤثر هذا التقليد على القيم الأسرية والدينية من خلال تبني مفاهيم مختلفة في العلاقات الاجتماعية، الزواج، وحقوق الأفراد، مما يضعف التماسك الاجتماعي ويخلق فجوات ثقافية داخل المجتمع.

لمواجهة هذه التحديات، يجب العمل على تعزيز الوعي بأهمية الحفاظ على القيم المحلية، وتطوير محتوى إعلامي يعكس الهوية الثقافية ويقدم نماذج إيجابية متجددة تتناسب مع العصر دون أن تفقد المجتمع جوهره وهويته. كما يتطلب الأمر دوراً فعالاً للتربية الإعلامية والثقافية لتمكين الأفراد من التمييز بين ما هو مفيد لهويتهم الثقافية وما هو ضار بها.

—> 3. انتشار الفردانية وانحسار التقاليد الجماعية

مع التطور السريع للتقنية الرقمية ووسائل الإعلام الحديثة، شهدت المجتمعات تغيرات جذرية في أنماط الحياة الاجتماعية والثقافية، ومن أبرز هذه التحولات انتشار الفردانية مقابل تراجع التقاليد الجماعية التي كانت تشكل نسيج الحياة الاجتماعية في المجتمعات التقليدية.

تسهم وسائل الإعلام الرقمية في تعزيز قيم الفردانية من خلال التركيز على حرية التعبير عن الذات، تحقيق الطموحات الشخصية، والاستقلالية الفردية، مما يجعل الأفراد يميلون إلى الاهتمام بمصالحهم الخاصة أكثر من الجماعة أو المجتمع. هذه القيم تختلف عن القيم المجتمعية التقليدية التي تركز على التماسك الاجتماعي، التعاون، والاهتمام بالمصلحة الجماعية.

ينجم عن هذا التحول تراجع المشاركة في الطقوس الاجتماعية والعادات الجماعية، مثل الاحتفالات التقليدية، والتجمعات العائلية، والتقاليد المجتمعية التي كانت تقوي الروابط الاجتماعية وتدعم الهوية الثقافية. كما يؤدي هذا إلى تباعد الأجيال، حيث يفضل الشباب نمط حياة أكثر فردانية، في حين يتمسك كبار السن بالتقاليد الجماعية.

يمكن أن يسبب انتشار الفردانية نوعاً من العزلة الاجتماعية والشعور بالاغتراب لدى الأفراد، وهو ما قد يؤثر سلباً على التماسك الاجتماعي والاستقرار الثقافي للمجتمعات. لذا، يبرز أهمية إيجاد توازن بين تعزيز الحرية الفردية والحفاظ على القيم والتقاليد الجماعية التي تضمن استمرار الهوية الثقافية وتماسك المجتمع.

—> 4. التأثير على اللغة والتراث الشفهي

تلعب التقنية الرقمية ووسائل الإعلام الحديثة دوراً متزايد الأهمية في حياة المجتمعات، لكنها تحمل تأثيرات ملحوظة على اللغة والتراث الشفهي، وهما عنصران أساسيان في الهوية الثقافية لأي مجتمع.

فيما يتعلق باللغة، تؤدي التقنية الرقمية إلى انتشار لغات أجنبية، وخصوصاً الإنجليزية، عبر وسائل الإعلام الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي، مما قد يضعف استخدام اللغة الأم ويعرضها لخطر التراجع أو الاندثار، خاصة بين الأجيال الشابة. كما أن الاعتماد على لغة مختصرة أو رموز تعبيرية في الرسائل الرقمية يؤثر على مهارات التعبير اللغوي التقليدية ويغير في طبيعة التواصل الشفهي والكتابي.

أما التراث الشفهي، الذي يشمل الحكايات الشعبية، الأمثال، الأغاني، والأحاديث المتداولة عبر الأجيال، فيتعرض لخطر التلاشي مع قلة الاهتمام به في ظل وفرة المحتوى الرقمي الحديث. فالتركيز على الإعلام الرقمي يحد من فرص نقل التراث الشفهي من جيل إلى آخر، كما أن هذا التراث لا يحظى عادةً بوجود رقمي واسع يحفظه ويوثقه.

لكن في المقابل، توفر التقنية الرقمية أدوات لإحياء التراث الشفهي عبر تسجيله رقمياً، أرشفته، ونشره على نطاق واسع، مما يسهل الحفاظ عليه ونقله للأجيال القادمة. هذا يتطلب جهوداً منظمة لإدماج التراث الشفهي في المحتوى الرقمي بطريقة تحافظ على أصالته وتزيد من وعي الجمهور بأهميته.

بالتالي، يؤثر الإعلام الرقمي بشكل مزدوج على اللغة والتراث الشفهي، ما يجعل من الضروري توجيه الجهود نحو حماية وتعزيز هذه العناصر الثقافية في ظل التقدم التقني.

الفصل الخامس: سبل التوازن والحفاظ على الأصالة الثقافية

—> 1. التربية الإعلامية والوعي الرقمي

تعد التربية الإعلامية والوعي الرقمي من الركائز الأساسية في مواجهة تأثيرات التقنية الرقمية على الثقافة والقيم الاجتماعية. فمع الانتشار الواسع لوسائل الإعلام الرقمية والتكنولوجيا الحديثة، أصبح من الضروري تزويد الأفراد بالمهارات والمعرفة التي تمكنهم من التعامل مع المحتوى الرقمي بطريقة نقدية وواعية.

تهدف التربية الإعلامية إلى تعليم الأفراد كيفية تحليل وفهم الرسائل الإعلامية الرقمية، والتمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة، وكذلك إدراك التأثيرات المحتملة لهذه الوسائل على سلوكهم وقيمهم الثقافية. وهذا يشمل القدرة على استخدام التكنولوجيا بشكل إيجابي يدعم الحفاظ على الهوية الثقافية بدلاً من السماح لها بالاندثار أو التشويه.

من جانب آخر، يعزز الوعي الرقمي قدرة الأفراد على حماية خصوصيتهم الرقمية وتجنب المخاطر المرتبطة بالاستخدام غير المسؤول للتقنية، مثل الإدمان الرقمي أو التعرض لمحتوى ضار. كما يساهم في تعزيز المشاركة الفعالة والمسؤولة في المجتمع الرقمي، من خلال تحفيز التفكير النقدي والمشاركة البناءة في النقاشات الثقافية والاجتماعية.

بالتالي، تعتبر التربية الإعلامية والوعي الرقمي أدوات حيوية تساعد المجتمعات على التكيف مع التطورات التكنولوجية، مع الحفاظ على القيم الثقافية والتقاليد الاجتماعية، وضمان استخدام التقنية بشكل يحقق التنمية الثقافية والاجتماعية المستدامة.

—> 2. تشجيع الإنتاج الثقافي المحلي في الفضاء الرقمي

يشكل تشجيع الإنتاج الثقافي المحلي في الفضاء الرقمي استراتيجية مهمة للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيز القيم الاجتماعية في مواجهة التحديات التي تفرضها التقنية الرقمية. فمع انتشار المحتوى الرقمي الأجنبي، يصبح من الضروري دعم الفنانين والمبدعين المحليين لإنتاج محتوى يعكس التراث الثقافي والقيم المجتمعية، مما يسهم في تعزيز الوعي والارتباط بالهوية الوطنية.

يساعد الإنتاج الثقافي المحلي الرقمي على نقل القصص والتقاليد والعادات من جيل إلى جيل، كما يمكنه أن يعكس التنوع الثقافي للمجتمع ويبرز خصوصياته في زمن العولمة. عبر المنصات الرقمية، يمكن لهذا الإنتاج أن يصل إلى جمهور واسع، محلياً وعالمياً، مما يفتح فرصاً لتبادل ثقافي ثري ومتوازن.

كما أن دعم الإنتاج المحلي يشجع الابتكار والإبداع في المجالات الفنية والأدبية والتقنية، ويخلق فرص عمل جديدة في قطاع الثقافة والإعلام. إلى جانب ذلك، يساهم في تقوية الاقتصاد الثقافي الرقمي، ويمنح المجتمع صوتاً يعبر عن هويته وقضاياه.

لذلك، من المهم أن تعمل الحكومات والمؤسسات الثقافية والقطاع الخاص على توفير الدعم المادي والفني والتقني للمبدعين المحليين، إلى جانب بناء منصات رقمية متخصصة تعزز حضور الثقافة المحلية وتضمن استمرارها في بيئة رقمية متغيرة ومتسارعة.

—> 3. دور المؤسسات التعليمية والدينية

تلعب المؤسسات التعليمية والدينية دوراً محورياً في مواجهة تحديات التقنية الرقمية وتأثيرها على التقاليد والقيم الاجتماعية والثقافية. فهي تمثل أحد الأعمدة الأساسية في الحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيز القيم المجتمعية في ظل التحولات الرقمية المتسارعة.

في الجانب التعليمي، تقوم المؤسسات بتقديم برامج ومناهج تعليمية تدمج التربية الإعلامية والوعي الرقمي، مما يساعد الأفراد، خاصة الشباب، على التعامل بوعي مع المحتوى الرقمي، وتمييز المحتوى الثقافي المحلي الأصيل من المحتوى الأجنبي أو المضلل. كما تسهم المدارس والجامعات في تشجيع البحث والإبداع في مجال الإنتاج الثقافي الرقمي، مما يعزز دور الشباب في الحفاظ على الهوية الثقافية.

أما المؤسسات الدينية، فهي تلعب دوراً في ترسيخ القيم الأخلاقية والاجتماعية المرتبطة بالتراث والتقاليد، عبر الخطاب الديني والأنشطة المجتمعية. كما تساهم في توجيه استخدام التقنية الرقمية بشكل ينسجم مع المبادئ الدينية والقيم المجتمعية، وتوفير بيئة توعوية تحمي من الانحرافات السلوكية والثقافية التي قد تنتج عن سوء استخدام التكنولوجيا.

بالتالي، فإن التعاون بين المؤسسات التعليمية والدينية يُعد عاملاً مهماً في بناء مجتمع واعٍ يتمتع بقدرة على الحفاظ على تقاليده وقيمه الثقافية، مع الاستفادة من إمكانيات التقنية الرقمية بشكل إيجابي ومتوازن.

—> 4. السياسات الوطنية لحماية الثقافة

تلعب السياسات الوطنية دوراً محورياً في حماية الثقافة والتقاليد والقيم الاجتماعية في عصر التقنية الرقمية المتسارع. فهي تشكل الإطار القانوني والتنظيمي الذي يضمن الحفاظ على الهوية الثقافية ويوازن بين التقدم التكنولوجي والحفاظ على التراث الثقافي.

تشمل السياسات الوطنية سنّ قوانين تحمي الملكية الفكرية والإبداع الثقافي المحلي، مما يحفز على إنتاج محتوى رقمي يعكس الهوية الوطنية ويحد من انتشار المحتوى الأجنبي الذي قد يؤثر سلباً على القيم المحلية. كما تتضمن هذه السياسات دعم المبادرات الرقمية التي تهدف إلى توثيق التراث وحفظه رقميًا، مثل أرشفة المخطوطات، الفنون الشعبية، واللغات المحلية.

علاوة على ذلك، تسعى السياسات الوطنية إلى تنظيم عمل وسائل الإعلام الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي لضمان احترام القيم الثقافية والأخلاقية، والحد من انتشار المحتوى المخل أو المضر بالهوية الثقافية. كما تهدف إلى تعزيز الثقافة الرقمية من خلال برامج التوعية والتدريب على الاستخدام المسؤول للتقنية.

كما تُعتبر الشراكات مع المؤسسات التعليمية والثقافية والمنظمات غير الحكومية جزءاً أساسياً من هذه السياسات، بهدف خلق بيئة متكاملة تحمي الثقافة الوطنية وتُنمّيها في مواجهة تحديات العصر الرقمي.

في المجمل، تُعد السياسات الوطنية حجر الأساس لضمان توازن مستدام بين الحفاظ على الثقافة التقليدية والتفاعل الإيجابي مع التقنية الرقمية الحديثة.

الخاتمة

في ختام هذا البحث حول تأثير التقنية الرقمية على الثقافة والتقاليد والقيم الاجتماعية لدى المجتمع، يتضح أن التقنية الرقمية تشكل قوة محورية في إعادة تشكيل نسيج الحياة الاجتماعية والثقافية. فقد أثر تأثير التقنية الرقمية على الثقافة والتقاليد بعمق على أنماط التواصل والعلاقات الاجتماعية، وأحدث تغييرات جوهرية في العادات والتقاليد التي كانت تميز المجتمعات عبر الأجيال. هذا التأثير جاء إيجابياً في جوانب كثيرة، مثل تسهيل نشر الثقافة والمعرفة، وحفظ التراث من خلال الرقمنة، وتعزيز الروابط الاجتماعية رغم البعد الجغرافي، ودعم المشاركة المجتمعية والسياسية عبر المنصات الرقمية.

مع ذلك، لم يخلُ هذا التحول الرقمي من تحديات كبيرة، حيث أدى تأثير التقنية الرقمية على الثقافة والتقاليد إلى ظواهر مثل طمس الهوية الثقافية نتيجة الانفتاح المكثف على المحتوى الأجنبي، وتقليد الأنماط الغربية الذي أضعف القيم المحلية الأصيلة. كما ساهمت التقنية الرقمية في انتشار الفردانية على حساب التقاليد الجماعية التي كانت تمثل اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، وتأثرت اللغة والتراث الشفهي الذي كان يشكل جانباً مهماً من الهوية الثقافية. هذه التحديات تتطلب وعياً وإدارة حكيمة لتقليل أضرارها وتحويلها إلى فرص لتعزيز الثقافة المحلية.

في هذا السياق، تبرز أهمية التربية الإعلامية والوعي الرقمي كأدوات رئيسية لتمكين الأفراد من التعامل بوعي مع المحتوى الرقمي، والتمييز بين ما يعزز هويتهم الثقافية وما يهددها. كما يصبح تشجيع الإنتاج الثقافي المحلي في الفضاء الرقمي ضرورة ملحة لضمان استمرارية القيم والتقاليد. ولا يغفل الدور الحيوي للمؤسسات التعليمية والدينية التي تعمل كحاضنة للثقافة، إلى جانب السياسات الوطنية التي يجب أن توفر إطاراً تنظيمياً يحفظ الثقافة ويشجع على التنوع والابتكار في الوقت ذاته.

في النهاية، لا يمكن إنكار أن تأثير التقنية الرقمية على الثقافة والتقاليد هو واقع جديد يفرض تحديات وفرصاً متعددة، ويجب أن تُدار هذه التأثيرات بحكمة لتحقيق صون الهوية الثقافية، وحماية القيم الاجتماعية، وضمان تنمية مستدامة للمجتمعات في ظل العصر الرقمي المتسارع.

قائمة المراجع

1. التقنية والهوية الثقافية: قراءة في التحولات المعاصرة

    المؤلف: د. أحمد عبد الحميد

2. الإعلام الرقمي وتأثيره على المجتمعات العربية

    المؤلف: د. سامي الكيلاني

3. الثقافة الرقمية والتحول الاجتماعي في المجتمعات العربية

    المؤلف: د. نجلاء محمد سليمان

4. التقاليد والقيم في ظل الثورة الرقمية

    المؤلف: د. محمد عبد العزيز الطائي

    الناشر: دار المعارف، 2017

5. الهوية الثقافية بين الأصالة والمعاصرة في عصر التقنية الرقمية

    المؤلف: د. فاطمة حسن

6. العولمة والتكنولوجيا الرقمية وتأثيرها على المجتمع العربي

    المؤلف: د. خالد علي محمود

7. التحول الرقمي وأثره على القيم الاجتماعية

    المؤلف: د. رامي سعيد

8. التواصل الاجتماعي الرقمي وتأثيره على العلاقات الثقافية والاجتماعية

    المؤلف: د. ليلى يوسف

9. المجتمع الرقمي: تحديات وتغيرات في الهوية والقيم

    المؤلف: د. سامر عبد الله

مواقع الكترونية 

1.المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات  https://www.dohainstitute.org

2.موقع الجزيرة نت - قسم التكنولوجيا  https://www.aljazeera.net

3.موقع الجزيرة نت - قسم الثقافة  https://www.aljazeera.net/culture

4.المجلة العربية للإعلام الرقمي  https://www.arabdigitalmedia.com

5.موقع اليوم السابع - قسم تكنولوجيا  https://www.youm7.com

6.موقع المنصة - منصة المحتوى العربي  https://almanassa.com


تعليقات