الثقافة السياسية والنظام السياسي
تشكل العلاقة بين الثقافة السياسية والنظام السياسي محورا أساسيا لفهم كيفية بناء السلطة وتفاعلها مع المجتمع. فالثقافة السياسية تعكس القيم والمفاهيم والمواقف التي يحملها المواطن تجاه السياسة، بينما يعكس النظام السياسي البنية القانونية والمؤسساتية التي تنظم الحكم وتوزيع السلطة. تؤثر الثقافة السياسية في طريقة تعامل الأفراد مع النظام، من حيث المشاركة، أو العزوف، أو المعارضة، كما ينعكس أداء النظام السياسي في تعزيز أو إضعاف هذه الثقافة، من خلال السياسات، والتعليم، والإعلام.
عندما تقوم الثقافة السياسية والنظام السياسي على المشاركة، والانفتاح، واحترام القانون، فإن العلاقة بين الدولة والمجتمع تكون صحية ومستقرة. أما إذا كانت الثقافة تتسم بالخضوع أو اللامبالاة، وكان النظام يميل إلى الاستبداد، فإن النتيجة تكون عزلة متبادلة، وتآكل في الشرعية السياسية. لهذا فإن إصلاح أي نظام سياسي يتطلب بالتوازي إصلاحاً ثقافياً يعيد تشكيل وعي المواطنين.
إن العلاقة بين الثقافة السياسية والنظام السياسي لا تتحدد فقط في النصوص القانونية، بل في الوعي الجمعي والتمثلات الشعبية للسلطة والمواطنة. وبالتالي فإن أي مجتمع يسعى نحو الديمقراطية والاستقرار لا بد أن يعزز هذه العلاقة من خلال التعليم، وحرية التعبير، وتشجيع المشاركة، ليصبح المواطن فاعلاً حقيقياً في بناء مستقبله.
1. مفهوم الثقافة السياسية
تشير الثقافة السياسية إلى جملة القيم والاتجاهات والمفاهيم التي يحملها الأفراد تجاه السياسة والنظام السياسي والمؤسسات العامة. وهي تعكس مدى وعي المواطن بدوره في الحياة السياسية، وكيفية فهمه للعلاقة بينه وبين السلطة، وبين المجتمع والدولة. لا تقتصر الثقافة السياسية على المعرفة بالمعلومات السياسية، بل تشمل أيضا الطريقة التي يرى بها الناس السلطة، والقانون، والعدالة، والمشاركة، والانتماء الوطني.
تلعب الثقافة السياسية دورا مركزيا في توجيه السلوك السياسي للأفراد، وتحديد مدى مشاركتهم في العملية السياسية، سواء بالتصويت أو بالنقاش أو بالاحتجاج السلمي أو غير ذلك من وسائل التعبير. كما تؤثر في قدرة المجتمع على قبول الاختلاف السياسي والتعددية، واحترام مؤسسات الدولة، وممارسة الحقوق المدنية بوعي ومسؤولية.
وتختلف الثقافة السياسية من مجتمع إلى آخر، باختلاف السياقات التاريخية والاجتماعية والتعليمية، كما تتغير بمرور الزمن بفعل التحولات الاقتصادية والسياسية والإعلامية. لذلك فإن تحليل الثقافة السياسية لأي مجتمع يمثل مدخلا أساسيا لفهم طبيعة نظامه السياسي، ومدى استقراره أو هشاشته، وقدرته على التكيف مع التغيرات.
2. أنواع الثقافة السياسية
تتعدد أنواع الثقافة السياسية بحسب مستوى وعي الأفراد ومشاركتهم في الشأن العام، وقد صنّفها علماء السياسة إلى ثلاثة أنماط رئيسية تتفاوت من حيث درجة الانخراط في العملية السياسية والعلاقة مع السلطة:
1. الثقافة الأبوية (Parochial)
تسود في المجتمعات التقليدية أو المعزولة، حيث يفتقر الأفراد إلى المعرفة السياسية ولا يشعرون بالانتماء إلى الدولة أو اهتمامهم بمؤسساتها. المواطن في هذا النمط يركّز على قضايا الحياة اليومية، ولا يعي دوره في النظام السياسي، ولا يشعر بأن سلوك الدولة يؤثر فيه مباشرة.
2. الثقافة التابعة (Subject)
يظهر هذا النوع في المجتمعات التي يكون فيها المواطنون على دراية بوجود النظام السياسي ومؤسساته، لكنهم لا يشاركون في صنع القرار. ينظرون إلى الدولة باعتبارها سلطة فوقية يجب الخضوع لها دون نقاش. يسود هذا النمط في الأنظمة السلطوية أو المركزية التي لا تشجع المشاركة الشعبية.
3. الثقافة المشاركة (Participant)
تُعدّ أرقى أشكال الثقافة السياسية، حيث يشعر الأفراد بالانتماء الحقيقي إلى الدولة، ويدركون دورهم في التأثير على القرار السياسي، ويشاركون بفعالية في الانتخابات والنقاشات العامة والعمل المدني. تنتشر هذه الثقافة في المجتمعات الديمقراطية التي تقوم على المشاركة والتعددية واحترام الحريات.
قد تظهر أيضا أنماط هجينة بين هذه الأنواع، خصوصا في المجتمعات الانتقالية التي تعرف تحولات سياسية واقتصادية وثقافية. ففي كثير من الأحيان، تتعايش أنماط متعددة من الثقافة السياسية داخل المجتمع الواحد، مما يعكس التنوع والاختلاف في درجات الوعي والانخراط السياسي.
3. تأثير الثقافة السياسية على استقرار النظام السياسي
تلعب الثقافة السياسية دورا أساسيا في تحقيق الاستقرار السياسي أو تعريض النظام للاهتزاز والاضطراب، وذلك بحسب طبيعة القيم والمواقف التي تسود بين المواطنين تجاه مؤسسات الحكم وآليات اتخاذ القرار. فحين تسود ثقافة المشاركة، والمواطنة، واحترام القانون، وقبول التعددية، فإن النظام السياسي يكون أكثر قدرة على امتصاص الأزمات والتكيف مع التغيرات، مما يعزز من شرعيته واستمراره.
أما إذا سادت ثقافة الاتكالية، أو التبعية العمياء، أو التسييس العاطفي، أو انعدام الثقة في المؤسسات، فإن النظام يصبح عرضة للتوترات الداخلية، والاحتجاجات غير المنظمة، وربما الانقلابات السياسية. فالثقافة السياسية التي تنفر من الحوار وترفض المعارضة لا يمكن أن تنتج نظاما مستقرا أو ديمقراطيا.
ويبرز أثر الثقافة السياسية أيضا في طريقة تعامل المجتمع مع الانتخابات، والمشاركة العامة، والسلطة القضائية، ووسائل الإعلام. ففي المجتمعات التي تتمتع بثقافة سياسية ناضجة، تُعدّ الانتخابات أداة لحل النزاعات بشكل سلمي، بينما تصبح في مجتمعات أخرى سببا في الصراعات إذا لم تكن هناك ثقة متبادلة.
إن استقرار النظام السياسي لا يتحقق فقط عبر القوانين والمؤسسات، بل يحتاج إلى وعي مجتمعي يدعم هذه المؤسسات ويحترم آلياتها. لذلك فإن تطوير الثقافة السياسية من خلال التعليم والإعلام والمجتمع المدني هو شرط ضروري لبناء أنظمة سياسية مستقرة وفاعلة، قادرة على إدارة التنوع وتحقيق العدالة والتوازن بين الدولة والمجتمع.
4. كيف يؤثر النظام السياسي في الثقافة السياسية
لا تقتصر العلاقة بين الثقافة السياسية والنظام السياسي على التأثير الأحادي من الثقافة إلى النظام، بل إن النظام السياسي ذاته يمتلك قدرة كبيرة على تشكيل الثقافة السياسية وتوجيهها. فبنية النظام، ونوع الحكم، وشكل المؤسسات، والخطاب الرسمي، كلها عوامل تؤثر في كيفية تفكير الأفراد وتصورهم للسياسة والسلطة والمشاركة.
في الأنظمة الديمقراطية، يؤدي وجود انتخابات حرة، وفصل بين السلطات، وحرية التعبير، إلى ترسيخ قيم المشاركة، والمساءلة، واحترام القانون، والتعايش السلمي. ومع الوقت، تُنتج هذه الممارسات ثقافة سياسية ديمقراطية تعزز الوعي السياسي لدى المواطنين، وتشجعهم على الانخراط الإيجابي في الشأن العام.
أما في الأنظمة السلطوية أو الشمولية، فإن غياب الحريات وتقييد المشاركة يولّد ثقافة سياسية قائمة على الصمت، والخوف، والامتناع عن المشاركة، وتفشي الولاءات الضيقة مثل الطائفية أو الجهوية. كما تستخدم بعض الأنظمة وسائل الإعلام والتعليم والدين لتشكيل وعي سياسي يخدم استمرارية السلطة ويهمّش المعارضة.
ويؤثر النظام السياسي أيضا في الثقافة السياسية من خلال تجاربه في إدارة الأزمات. فإذا تعامل النظام بشفافية وعدالة مع الأزمات، يولّد ذلك ثقة مجتمعية ترتقي بالثقافة السياسية. أما إذا لجأ إلى القمع أو التلاعب، فإن ذلك يزرع الشكوك ويدفع الأفراد إلى الانكفاء أو الرفض السياسي.
بالتالي، فإن قدرة النظام السياسي على بناء ثقافة سياسية متوازنة ترتبط بإرادته الإصلاحية، وعدالة مؤسساته، وصدق خطابه السياسي. فالثقافة السياسية لا تتطور تلقائيا، بل هي نتاج تفاعل مع بنية النظام وسلوك السلطة على المدى الطويل.
5. الإعلام والتعليم كأدوات مشتركة في العلاقة
يلعب كل من الإعلام والتعليم دورا محوريا في تشكيل العلاقة بين الثقافة السياسية والنظام السياسي، حيث يُعدّان من أهم أدوات التنشئة السياسية التي تؤثر في وعي الفرد، وتوجيهه، وتكوينه كمواطن فاعل أو سلبي. فالإعلام والتعليم ليسا فقط وسيلتين لنقل المعلومات، بل هما مؤسستان تشكلان القيم والمواقف والاتجاهات التي تُكوّن مضمون الثقافة السياسية في المجتمع.
1.التعليم:
من خلال المناهج الدراسية، يتم نقل مفاهيم مثل المواطنة، الحقوق، الواجبات، المشاركة، احترام القانون، والتعددية. فإذا كانت السياسات التعليمية مشجعة على التفكير النقدي والانفتاح والتفاعل مع القضايا الوطنية، فإنها تساهم في بناء ثقافة سياسية قائمة على الوعي والمسؤولية. أما إذا غابت هذه القيم، وتم الاكتفاء بالحفظ والتلقين، فإن النتيجة ستكون أفرادا غير مبالين بالشأن العام، أو خاضعين لأي سلطة دون تفكير.
2.الإعلام:
يلعب الإعلام دورا أساسيا في نقل المعلومات وتكوين الرأي العام. فالإعلام الحر والمستقل يتيح للمواطنين الاطلاع على الشأن السياسي، ويحفزهم على النقاش والمساءلة. كما يساهم في توعية الناس بحقوقهم وواجباتهم، ويخلق مناخا يتيح نمو ثقافة المشاركة. أما الإعلام الموجّه أو الخاضع للسلطة، فيسهم في نشر ثقافة التبعية والخوف، أو يشوه الحقائق، ويُضعف من قدرة الناس على اتخاذ مواقف سياسية مستنيرة.
3.التكامل بين الإعلام والتعليم:
حين يتكامل دور الإعلام والتعليم في دعم الوعي السياسي، يصبح المجتمع أكثر استعدادا للمشاركة الفعالة، وأكثر قدرة على مراقبة أداء النظام السياسي. هذا التكامل يساعد أيضا في مواجهة التضليل، ونشر ثقافة الحوار، وبناء مجتمع مدني قوي يوازن بين السلطة والمجتمع. ولهذا فإن تطوير أدوات الإعلام والتعليم يشكل مدخلا حقيقيا لتعزيز الثقافة السياسية وترسيخ النظام السياسي على أسس أكثر ديمقراطية واستقرارا.
6. الثقافة السياسية والتحول الديمقراطي
يشكل التحول الديمقراطي أحد أكثر العمليات السياسية تعقيدًا، حيث لا يكفي تغيير النظم القانونية أو إجراء انتخابات لإقامة ديمقراطية حقيقية، بل يجب أن يرافق هذا التحول تغيّر جوهري في الثقافة السياسية السائدة داخل المجتمع. فالثقافة السياسية هي العامل الذي يمنح العملية الديمقراطية معناها وشرعيتها، ويضمن ديمومتها واستقرارها.
في المجتمعات التي تسود فيها ثقافة سياسية قائمة على الولاء الشخصي أو القبلي، أو التي يغلب عليها الطابع التسلطي والخضوع للسلطة، غالبًا ما تواجه الديمقراطية تحديات حقيقية، حتى وإن توفرت مؤسسات شكلية. فغياب ثقافة المشاركة، ورفض التعددية، وانتشار عدم الثقة في الدولة ومؤسساتها، كل ذلك يقوّض قواعد العمل الديمقراطي، ويؤدي إلى هشاشة التجربة أو انكسارها.
بالمقابل، عندما تتجذر في المجتمع قيم مثل احترام القانون، والتسامح، وحرية التعبير، والقبول بالاختلاف، فإن فرص نجاح التحول الديمقراطي تكون أكبر، لأن هذه القيم تشكّل المناخ الملائم لازدهار المؤسسات الديمقراطية، وتعزز ثقافة التداول السلمي للسلطة.
وقد أثبتت التجارب في دول عدة أن فشل التحول الديمقراطي لا يعود فقط إلى عوامل سياسية أو اقتصادية، بل إلى ضعف البنية الثقافية للمجتمع، وعدم جاهزية الناس للانخراط في نظام يتطلب الالتزام والانفتاح والقبول بالقواعد. لذلك، فإن التأسيس لتحول ديمقراطي مستقر لا بد أن ينطلق من تغيير في الثقافة السياسية، عبر إصلاح التعليم، وتشجيع الإعلام الحر، وتوسيع فضاءات المجتمع المدني، لتهيئة بيئة تسمح بنمو وعي سياسي ديمقراطي حقيقي.
وباختصار، فإن التحول الديمقراطي ليس حدثًا قانونيًا أو سياسيًا فقط، بل هو مسار ثقافي طويل يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة، وبناء ثقافة سياسية تضمن احترام حقوق الإنسان، وتعزز روح المواطنة، وتجعل من الديمقراطية ممارسة يومية وليست مجرد نظام شكلي.
7. نماذج مقارنة من الواقع
تعد الثقافة السياسية عاملاً حاسماً في منح الشرعية للنظام السياسي أو سحبها منه، إذ إنها تمثل الإطار الذهني والقيمي الذي يتفاعل من خلاله المواطنون مع مؤسسات الدولة وسلطاتها. فعندما تؤمن غالبية أفراد المجتمع بشرعية السلطة القائمة، ويعتبرونها ممثلاً لمصالحهم وقائمة على أسس عادلة، فإنهم يمنحون النظام السياسي شرعية معنوية تتجاوز الشرعية القانونية، ما يعزز من استقراره واستمراره.
إن الشرعية السياسية لا تُكتسب فقط من خلال الانتخابات أو القوانين، بل من خلال توافق ثقافي يعكس ثقة الناس بمؤسساتهم، واستعدادهم للمشاركة، والاعتقاد بأن النظام يعبّر عن إرادتهم ويصون حقوقهم. هذا التوافق لا يتحقق إلا في ظل ثقافة سياسية ناضجة تؤمن بالمواطنة، والحوار، والاحتكام إلى القانون، والمساءلة.
وعلى العكس من ذلك، حين تسود ثقافة عدم الثقة، أو الخوف، أو الشعور بالتهميش، فإن شرعية النظام تتآكل، حتى وإن كان يمتلك مؤسسات قوية أو دستوراً شكلياً. فالفجوة بين السلطة والمجتمع، في غياب ثقافة سياسية حية، تؤدي إلى رفض صامت أو مقاومة علنية، وقد تفضي إلى أزمات سياسية أو اضطرابات اجتماعية.
ومن هنا تأتي أهمية بناء ثقافة سياسية واعية، عبر أدوات التنشئة السياسية كالتعليم والإعلام والمجتمع المدني، لتعزيز القيم التي تجعل من النظام السياسي انعكاساً فعلياً لإرادة الشعب. فالثقافة السياسية لا تخلق فقط مواطنين أكثر مشاركة، بل تخلق نظاماً أكثر شرعية واستقراراً، وتوفر بيئة تسمح بإصلاحه من الداخل بوسائل سلمية وفعالة.
8. الثقافة السياسية كضمان للشرعية السياسية
تلعب الثقافة السياسية دورا محوريا في إضفاء الشرعية على النظام السياسي، إذ إنها تعكس مدى قبول المواطنين للسلطة السياسية، ومدى استعدادهم للتفاعل معها والمشاركة في مؤسساتها. فالشرعية لا تُبنى فقط على القوانين والدساتير، بل تعتمد أيضا على الرضا الشعبي والثقة العامة، وهما عنصران لا يتحققان إلا في ظل ثقافة سياسية ناضجة.
في المجتمعات التي تسود فيها ثقافة سياسية تقوم على المواطنة، واحترام القانون، وقبول التعددية، يشعر الأفراد أن النظام السياسي يعبر عن إرادتهم ويخدم مصالحهم، ما يمنحه شرعية أقوى من تلك التي تُفرض بالقوة أو يتم التلاعب بها عبر وسائل شكلية. وتساهم هذه الثقافة أيضا في استقرار الدولة، لأنها تجعل الناس أكثر ميلا لحل الخلافات بالطرق السلمية، وأكثر التزاما بالقانون والمؤسسات.
في المقابل، إذا غابت هذه الثقافة، أو سادت أنماط من اللامبالاة السياسية أو الشك في النوايا العامة أو ثقافة الانقياد الأعمى، فإن الشرعية تتحول إلى مجرد مظاهر شكلية. وهذا ما يجعل النظام السياسي عرضة للاهتزاز في أي لحظة، خصوصا عند وقوع الأزمات أو النزاعات.
من هنا، فإن تعزيز الشرعية السياسية يتطلب غرس قيم سياسية سليمة تبدأ من المدرسة وتُعزّز في الإعلام والمجتمع المدني، بهدف بناء وعي سياسي يجعل العلاقة بين المواطن والدولة قائمة على الثقة والاحترام المتبادل، لا على الخوف أو العزوف أو التبعية المطلقة.
9. التحديات المعاصرة أمام العلاقة بين الثقافة والنظام السياسي
تواجه العلاقة بين الثقافة السياسية والنظام السياسي في العصر الراهن جملة من التحديات العميقة والمعقدة، تعود في جزء كبير منها إلى التحولات العالمية السريعة، والتطور التكنولوجي، وتغير أنماط التنشئة السياسية والاجتماعية. هذه التحديات تُضعف أحيانا التفاعل الصحي بين المواطن والنظام، وتشوش مفاهيم المشاركة والانتماء والمسؤولية السياسية.
1. انتشار المعلومات المضللة
مع تصاعد دور وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، بات من السهل تداول الأخبار الكاذبة والخطابات المتطرفة، ما أدى إلى زعزعة الثقة في المؤسسات، وتكوين مواقف سياسية قائمة على معلومات غير دقيقة. هذا التحدي يضر بالثقافة السياسية الواعية، ويجعل المجال العام عرضة للتشويش والانقسام.
2. تراجع التربية السياسية في المؤسسات التعليمية
لم تعد المدارس والجامعات في كثير من الدول تولي أهمية كافية لبناء وعي سياسي مسؤول. فضعف المناهج التي تركز على مفاهيم المواطنة والمشاركة والديمقراطية ساهم في نشوء أجيال غير مهتمة بالشأن العام، أو حاملة لقيم فردية لا تؤمن بالفعل الجماعي.
3. اتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع
في كثير من الدول، يشعر المواطنون بالغربة عن النظام السياسي، بسبب غياب الشفافية، أو استشراء الفساد، أو تهميش قطاعات واسعة من المجتمع. هذا الشعور يولّد ثقافة سياسية قائمة على العزوف أو الاحتجاج غير المؤطر، ويضعف شرعية الدولة ويزيد من هشاشة النظام.
4. تنامي الفردانية وتراجع الثقة الجماعية
تؤدي الأنماط الجديدة من الحياة، خاصة في المدن الكبرى، إلى بروز ثقافة فردانية تُضعف الروابط السياسية والاجتماعية، وتقلل من الحافز للمشاركة في الحياة العامة، بما في ذلك الانتخابات والعمل المدني.
5. صعود الشعبوية وخطابات الكراهية
في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، أصبحت بعض النخب السياسية توظف الشعبوية، والخطابات العدوانية ضد الآخر، ما يغذي ثقافة الإقصاء والتطرف، ويفسد الحوار السياسي العقلاني.
تتطلب مواجهة هذه التحديات مراجعة شاملة لسياسات التعليم والإعلام، وتعزيز دور المجتمع المدني، وتجديد آليات التواصل بين الدولة والمواطنين. كما أن بناء ثقافة سياسية صحية يتطلب مواجهة مصادر التشويش وتعزيز قيم الحوار والانتماء، لضمان علاقة متوازنة ومستقرة بين الثقافة السياسية والنظام السياسي.
خاتمة
في ختام هذا العرض، يتضح أن العلاقة بين الثقافة السياسية والنظام السياسي تمثل إحدى الركائز الأساسية لفهم الديناميكيات التي تحكم طبيعة السلطة في المجتمعات، ومدى تفاعل الأفراد مع مؤسسات الحكم. فليست الثقافة السياسية مجرد إطار معرفي أو قيمي معزول، بل هي عنصر فاعل ومؤثر يتغلغل في بنية النظام السياسي، ويوجه سلوك الأفراد، ويمنح شرعية أو يسحبها من السلطة بحسب مدى التوافق بين القيم السائدة في المجتمع وأداء المؤسسات الحاكمة.
إن العلاقة بين الثقافة السياسية والنظام السياسي علاقة تبادلية ومعقدة، لا يمكن فهم أحد طرفيها دون الإحاطة بالآخر. فالنظام السياسي قد يكرس ثقافة المشاركة والانفتاح، أو يُنتج ثقافة الطاعة والانغلاق، بحسب توجهاته وآليات عمله. وفي المقابل، تلعب الثقافة السياسية دورا حاسما في تحديد مدى استقرار النظام السياسي أو هشاشته، من خلال مدى وعي المواطنين بحقوقهم وواجباتهم، وثقتهم في المؤسسات، واستعدادهم للمشاركة في إدارة الشأن العام.
لقد أظهرت التجارب السياسية المعاصرة، سواء في المجتمعات الديمقراطية أو النامية، أن أي إصلاح حقيقي لا يمكن أن يتحقق دون بناء ثقافة سياسية سليمة تدعم قيم الحوار، والمساءلة، واحترام القانون. فغياب هذه الثقافة يجعل النظام السياسي، مهما كانت قوته الشكلية، عرضة للانهيار أو الرفض المجتمعي. ومن هنا، فإن تطوير التعليم، والإعلام، والمجتمع المدني، يعدّ مسارا ضروريا لترسيخ هذه القيم وتحقيق التوازن بين الدولة والمجتمع.
إن مستقبل النظم السياسية لا يعتمد فقط على الدساتير أو الانتخابات، بل يتوقف بدرجة كبيرة على العلاقة المتينة والواعية بين الثقافة السياسية والنظام السياسي، تلك العلاقة التي تصوغ معالم المشاركة، والشرعية، والاستقرار، في ظل عالم سريع التحول والتعقيد.
مراجع
1. علي الدين هلال - الثقافة السياسية والمجتمع المدني
يتناول العلاقة بين الثقافة السياسية والتحول الديمقراطي، ويشرح أبعاد المشاركة السياسية والثقافة التسلطية.
2. غسان سلامة - النظم السياسية المعاصرة
يعرض نماذج النظم السياسية ويقارن تأثير الثقافة السياسية على كل منها.
3. محمد عابد الجابري - الخطاب العربي المعاصر
يتناول المفاهيم السياسية والثقافية في المجتمعات العربية وعلاقتها ببنية السلطة.
4. محمد قطب - واقعنا المعاصر
يناقش تأثير الثقافة العامة على سلوك المجتمعات وتكوين الوعي السياسي في ظل النظام الحاكم.
5. سمير سعيد - مدخل إلى علم السياسة
يقدم إطارا منهجيا لتحليل العلاقة بين الثقافة السياسية والنظام السياسي، خاصة في دول العالم الثالث.
6. عبد الغني عماد - الثقافة السياسية والتحول الديمقراطي في المجتمعات العربية
يناقش الثقافة السياسية من حيث دورها في تعزيز المشاركة أو تقييدها، ويعرض نماذج مقارنة.
7. أحمد صدقي الدجاني - الوعي السياسي والتحول الديمقراطي
يناقش بناء الوعي السياسي كمقدمة لبناء نظام سياسي مستقر.
8. عبد الإله بلقزيز - الدولة في الفكر العربي المعاصر
يناقش علاقة المواطن بالدولة من منظور ثقافي وفكري، وتأثير ذلك على النظام السياسي في المجتمعات العربية.
مواقع الكرتونية
1.الثقافة السياسية بين المفهوم والممارسة عين على العرب
تحليل معمق للمفهوم وتطبيقاته في العالم العربي، وكيف تؤثر الثقافة السياسية في العلاقة بين النظام والمجتمع
رابط: الثقافة-السياسية-بين-المفهوم-والممارسة
2.أثر الثقافة السياسية على النظام السياسي - Arabprf
عرض مبسط لفكرة أن الثقافة السياسية هي الأساس الذي يبني عليه النظام السياسي قوته أو هشاشته
رابط: أثر-الثقافة-السياسية-على-النظام-السياسي
3.الثقافة السياسية والبوصلة الأخلاقية للنظام السياسي - سكاي نيوز عربية
يحلل المقال كيف ترتبط القيم الثقافية بالممارسات الحاكمة ضمن النظام السياسي
رابط: الثقافة-السياسية-والبوصلة-الأخلاقية
4.العلاقة الجدلية بين الثقافة السياسية والنظام السياسي - معهد الدوحة
تغطية سيمنار أكاديمي عن العلاقة السببية بين الثقافة السياسية وبنية النظام السياسي
رابط: https://www.dohainstitute.org
5.التنشئة السياسية والثقافة السياسية - المعهد الدولي للديمقراطية
يوضح دور التنشئة في المدارس والمجتمع في تشكل الثقافة السياسية لدى الأفراد
رابط: https://www.bipd.org
6.الثقافة السياسية. دراسات من المنطقة العربية وعنها - تلفزيون سوريا
يقدم قراءة معاصرة ومراجع أبحاث حول الثقافة السياسية وعلاقتها بالنظم في العالم العربي
اترك تعليق جميل يظهر رقي صاحبه