الحضارة القفصية في بلاد المغرب القديم
الحضارة القفصية، التي ازدهرت في بلاد المغرب القديم بين 10,000 و6,000 ق.م، تعد من أهم حضارات العصر الحجري الوسيط. تميزت باستخدام الأدوات الحجرية الدقيقة (الميكروليث) وتقنيات الصيد وجمع الغذاء. ساهمت في تشكيل أنماط الاستقرار والتنقل، وأثرت على المجتمعات النيوليتية لاحقًا، مما جعلها مرحلة حاسمة في تطور شمال إفريقيا.
الفصل الأول: الإطار الجغرافي والتاريخي للحضارة القفصية
امتدت الحضارة القفصية في بلاد المغرب القديم، خاصة في تونس، الجزائر، وليبيا، بين 10,000 و6,000 ق.م. تأثرت بالمناخ المتغير الذي ساعد على تنوع البيئات الطبيعية. ارتبطت بحضارات العصر الحجري الوسيط، واستخدمت تقنيات متطورة في الصيد وصناعة الأدوات، مما جعلها مرحلة انتقالية نحو المجتمعات الزراعية النيوليتية.
1.الموقع الجغرافي وانتشار الحضارة القفصية في شمال إفريقيا
1. الموقع الجغرافي
الحضارة القفصية هي واحدة من أهم الحضارات التي ازدهرت خلال العصر الحجري القديم المتأخر والعصر الحجري الوسيط في شمال إفريقيا. سُميت بهذا الاسم نسبة إلى موقع قفصة في تونس، حيث تم اكتشاف أولى الأدلة الأثرية المرتبطة بهذه الحضارة.
امتد انتشار الحضارة القفصية عبر مناطق واسعة من شمال إفريقيا، بما في ذلك:
تونس: حيث تُعتبر قفصة المركز الأساسي لهذه الحضارة، مع وجود مواقع مهمة مثل كهف وادي الغار ومواقع أخرى أظهرت بقايا أثرية غنية.
الجزائر: وُجدت آثار الحضارة القفصية في عدة مواقع مثل الطاسيلي والهقار، خاصة في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية.
ليبيا: ظهرت امتدادات للحضارة القفصية في المناطق الساحلية والصحراوية، حيث تم العثور على أدوات حجرية مشابهة.
المغرب: انتشرت الحضارة القفصية في بعض المناطق الجبلية والصحراوية، وخاصة في جنوب المغرب حيث ظهرت مواقع تحمل ملامح ثقافية مشابهة.
2. انتشار الحضارة القفصية في شمال إفريقيا
انتشرت الحضارة القفصية على نطاق واسع في شمال إفريقيا، مما يشير إلى أن المجتمعات القفصية كانت متنقلة واستغلت البيئات المختلفة لتأمين مواردها. ويدل انتشار الأدوات الحجرية، خاصة الأدوات الميكروليتية (الصغيرة)، على وجود تبادل ثقافي وتقني بين المجموعات البشرية في هذه المناطق.
عوامل انتشار الحضارة القفصية:
التكيف البيئي: كانت مجتمعات القفصيين تتأقلم مع البيئات المختلفة، مما ساعد في انتشارها عبر المناطق الصحراوية والساحلية.
الصيد وجمع الغذاء: كان نمط الحياة يعتمد على صيد الحيوانات وجمع النباتات، مما تطلب التحرك المستمر بحثًا عن الموارد الغذائية.
التطور التكنولوجي: استخدام الأدوات الحجرية المتقدمة مكّن القفصيين من استغلال موارد بيئية متنوعة، مما ساهم في توسع انتشارهم.
تمثل الحضارة القفصية واحدة من أهم مراحل تطور المجتمعات ما قبل التاريخ في شمال إفريقيا، حيث امتدت عبر مناطق واسعة نتيجة لأساليب حياتها المعتمدة على الصيد والجمع والتكيف مع البيئة. لقد ساهمت هذه الحضارة في تشكيل أسس المجتمعات النيوليتية اللاحقة في المنطقة.
2.المناخ والبيئة وتأثيرهما على حياة القفصيين
1. المناخ خلال فترة الحضارة القفصية
ازدهرت الحضارة القفصية خلال العصر الحجري القديم المتأخر والعصر الحجري الوسيط، أي بين حوالي 10,000 و6,000 سنة قبل الميلاد، في فترة شهدت تحولات مناخية كبيرة في شمال إفريقيا.
خلال هذه الحقبة، كانت المنطقة تتمتع بمناخ أكثر اعتدالًا ورطوبة مقارنة بالمناخ الحالي، خاصة في المناطق الداخلية من تونس، الجزائر، وليبيا.
كانت الصحراء الكبرى أقل امتدادًا مما هي عليه اليوم، وكانت مناطق مثل جنوب تونس وجنوب الجزائر تتمتع بغطاء نباتي أكثر كثافة، مع وجود بحيرات ومجارٍ مائية موسمية.
في المراحل المتأخرة من الحضارة القفصية، بدأ المناخ يصبح أكثر جفافًا، مما أدى إلى تقلص الغابات والموارد المائية، ودفع القفصيين إلى التكيف مع بيئات أكثر قسوة.
2. تأثير البيئة والمناخ على حياة القفصيين
أثرت التغيرات المناخية على أنماط معيشة القفصيين بشكل مباشر، حيث تكيفوا مع بيئتهم من خلال:
أ. الصيد وجمع الغذاء
كانت وفرة الموارد الطبيعية، مثل الغابات والبحيرات، توفر بيئة مناسبة لوجود الحيوانات الكبيرة مثل الغزلان، الظباء، والخنازير البرية، مما جعل الصيد أحد الأنشطة الرئيسية للقفصيين.
مع مرور الوقت، أدى التصحر التدريجي إلى تراجع أعداد الحيوانات الكبيرة، مما اضطر القفصيين إلى الاعتماد بشكل أكبر على الصيد الصغير وجمع النباتات البرية.
ب. الأدوات والتكنولوجيا
استخدم القفصيون أدوات حجرية متطورة، مثل المكاشط والشفرات الدقيقة (الميكروليتية)، التي كانت مناسبة لصيد الحيوانات الصغيرة ومعالجة الجلود.
تطورت أدوات الطحن، مما يشير إلى أن القفصيين بدأوا يعتمدون على جمع البذور والحبوب البرية، خاصة مع تراجع الصيد بسبب التغيرات البيئية.
ج. أنماط الاستقرار والتنقل
في الفترات الرطبة، استقر القفصيون حول الأنهار والمناطق الغنية بالمياه، حيث مارسوا الصيد وجمع الثمار.
مع ازدياد الجفاف، بدأوا يتبنون نمط حياة شبه متنقل، حيث كانوا يتحركون بين المناطق بحثًا عن المياه والطعام، مما أدى إلى انتشارهم في مناطق أوسع داخل شمال إفريقيا.
د. تأثير التصحر على التحولات الثقافية
مع ازدياد الجفاف، بدأت المجتمعات القفصية تتكيف مع الظروف المناخية الجديدة من خلال استغلال الموارد المتاحة بشكل أكثر كفاءة.
من المحتمل أن يكون التصحر قد أدى إلى هجرات واسعة، حيث انتقل بعض القفصيين إلى مناطق أكثر رطوبة في شمال إفريقيا، مما ساعد في نشر ثقافتهم وتأثيرهم على الحضارات اللاحقة، مثل المجتمعات النيوليتية في المغرب الكبير.
لعبت البيئة والمناخ دورًا حاسمًا في تشكيل أسلوب حياة القفصيين، حيث أجبرتهم التحولات المناخية على تطوير تقنيات صيد متقدمة، والاعتماد بشكل متزايد على جمع الغذاء، والتكيف مع ظروف متغيرة. كما أدى التصحر إلى انتشارهم في مناطق أوسع، مما ساهم في تأثيرهم على المجتمعات اللاحقة في شمال إفريقيا.
3.التأريخ الزمني للحضارة القفصية وعلاقتها بالحضارات المعاصرة
1. التأريخ الزمني للحضارة القفصية
تمتد الحضارة القفصية خلال العصر الحجري القديم المتأخر والعصر الحجري الوسيط، أي بين حوالي 10,000 و6,000 سنة قبل الميلاد، وهي مرحلة انتقالية مهمة في شمال إفريقيا شهدت تحولات بيئية وثقافية كبيرة.
يعتمد تأريخ الحضارة القفصية على تقنيات الكربون المشع وتحليل الطبقات الأثرية، وقد تم تقسيمها إلى مرحلتين رئيسيتين:
المرحلة المبكرة (حوالي 10,000 – 8,000 ق.م):
ظهور الأدوات الميكروليتية (الشفرات الصغيرة) واستخدامها في الصيد وجمع الغذاء.
الاعتماد على الحيوانات الكبيرة مثل الغزلان والظباء، مع نمط حياة متنقل نسبيًا.
المرحلة المتأخرة (حوالي 8,000 – 6,000 ق.م):
ازدياد الاعتماد على الصيد الصغير وجمع الحبوب البرية بسبب التغيرات البيئية والجفاف التدريجي.
ظهور مؤشرات تدل على محاولات أولية للاستقرار في بعض المناطق الغنية بالمياه.
2. علاقة الحضارة القفصية بالحضارات المعاصرة
كانت الحضارة القفصية متزامنة مع عدة حضارات أخرى في مناطق مختلفة من العالم، مما يجعلها جزءًا من شبكة واسعة من التطورات الثقافية في عصور ما قبل التاريخ.
أ. في شمال إفريقيا
الحضارة الإيبيروموريسية (في المغرب والجزائر، 17,000 – 8,000 ق.م)
تُعتبر الحضارة الإيبيروموريسية أقدم من الحضارة القفصية، لكنها استمرت لفترة من الزمن بالتوازي مع بدايات القفصيين.
استخدمت الإيبيروموريسية تقنيات صيد مختلفة، وكان لها نمط حياة مشابه إلى حد ما للقفصيين.
يُعتقد أن بعض عناصر الثقافة الإيبيروموريسية قد انتقلت إلى الحضارة القفصية، مما أدى إلى تطور أساليب صيد أكثر كفاءة.
الحضارات النيوليتية المبكرة (بعد 6,000 ق.م)
يُعتقد أن الحضارة القفصية ساهمت في التحول نحو العصر الحجري الحديث (النيوليتي) في شمال إفريقيا.
بدأت بعض المجتمعات القفصية في تبني الزراعة وتربية الحيوانات، مما مهد الطريق لظهور المجتمعات النيوليتية المستقرة.
ب. في الشرق الأدنى وأوروبا
الثقافة النطوفية (في بلاد الشام، 12,000 – 9,500 ق.م)
كانت الثقافة النطوفية متقدمة في تقنيات الصيد وجمع الحبوب، وتشير بعض الدراسات إلى وجود أوجه تشابه مع القفصيين في استخدام الأدوات الحجرية الدقيقة.
من المحتمل أن تكون بعض تقنيات طحن الحبوب قد انتقلت إلى شمال إفريقيا، مما ساهم في تطور القفصيين.
حضارات العصر الحجري الوسيط في أوروبا
في أوروبا، ظهرت حضارات مماثلة مثل حضارة أزيل في فرنسا وحضارة مجدالين، التي استخدمت أدوات حجرية متطورة وأظهرت مهارات في الصيد.
رغم عدم وجود أدلة مباشرة على الاتصال بين القفصيين وهذه الحضارات، إلا أن هناك تشابهًا في أساليب الحياة وأدوات الصيد.
يُظهر التأريخ الزمني للحضارة القفصية أنها كانت حضارة انتقالية بين العصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث، مما يجعلها جزءًا مهمًا من تطور المجتمعات الإنسانية في شمال إفريقيا. كما كانت متزامنة مع حضارات أخرى في مناطق مختلفة، مما يعكس انتشار الابتكارات الثقافية والتكنولوجية في عصور ما قبل التاريخ.
الفصل الثاني: السمات الثقافية والصناعية للحضارة القفصية
تميزت الحضارة القفصية بتقنيات متطورة في صناعة الأدوات الحجرية، خاصة الميكروليث، واستخدامها في الصيد وجمع الغذاء. أظهرت ملامح ثقافية من خلال الطقوس الجنائزية والفنون الصخرية، مما يعكس وعياً روحياً متقدماً. كما ساهمت في تشكيل أنماط استقرار ونقل المعرفة، مما جعلها أساساً للحضارات النيوليتية في شمال إفريقيا.
1.الأدوات الحجرية والتطور التقني
1. الأدوات الحجرية في الحضارة القفصية
تُعتبر الأدوات الحجرية القفصية من أبرز المعالم الأثرية التي تميز هذه الحضارة، حيث أظهرت تطورًا كبيرًا في تقنيات التصنيع والتكيف مع احتياجات الحياة اليومية. اعتمد القفصيون بشكل أساسي على تقنية التصنيع الميكروليتية، التي تعتمد على إنتاج شفرات صغيرة تُستخدم في أدوات مركّبة أكثر تطورًا.
أ. الأدوات المستخدمة في الصيد
الشفرات الميكروليتية: قطع حجرية صغيرة تُثبت على مقابض خشبية أو عظمية لصنع رماح وسهام أكثر فاعلية.
المكاشط (Scrapers): أدوات مسننة تُستخدم في تنظيف الجلود ومعالجة الأخشاب.
المثاقب الحجرية: أدوات دقيقة استخدمت في ثقب العظام والخشب لصنع مقابض وأدوات مركبة.
ب. الأدوات المستخدمة في تجهيز الطعام
المناجل الحجرية: تُستخدم لحصاد النباتات البرية، مما يشير إلى بدايات الزراعة المبكرة.
أدوات الطحن (الرحى اليدوية): تدل على استخدام الحبوب البرية وطحنها للأكل، مما يشير إلى تحول تدريجي نحو الزراعة.
ج. الأدوات متعددة الاستخدامات
السكاكين والشفرات الحادة: كانت تُستخدم في الذبح والسلخ والتقطيع.
رؤوس السهام المدببة: صُنعت بشكل دقيق للصيد الفعّال.
2. التطور التقني في الحضارة القفصية
شهدت الحضارة القفصية تقدمًا تقنيًا ملحوظًا مقارنة بالحضارات السابقة، وذلك في:
أ. تقنيات التصنيع
تقنية الضغط (Pressure Flaking): طريقة متطورة لصنع شفرات دقيقة بواسطة الضغط على الأحجار، مما أدى إلى أدوات أكثر كفاءة.
إعادة تدوير الأدوات: كان القفصيون يعيدون استخدام الأدوات المكسورة عبر إعادة شحذها أو تعديلها لأغراض أخرى.
ب. الابتكار في الصيد والتكيف مع البيئة
استخدم القفصيون الأدوات المركبة، مثل السهام المزودة بشفرات ميكروليتية، مما زاد من كفاءة الصيد.
أدت التغيرات البيئية إلى تطوير تقنيات صيد تتناسب مع الفرائس الصغيرة، مثل الأرانب والطيور، بعد تراجع أعداد الحيوانات الكبيرة بسبب الجفاف.
ج. بداية الاستقرار وتطوير الأدوات الزراعية
تطور المناجل الحجرية وأدوات الطحن يعكس تحولًا تدريجيًا نحو جمع الحبوب البرية وربما الزراعة المبكرة.
ظهور أدوات معالجة الجلود يشير إلى تطور في صناعة الملابس والملاجئ.
تميزت الحضارة القفصية بتقدم ملحوظ في صناعة الأدوات الحجرية، حيث اعتمد القفصيون على تقنيات ميكروليتية متطورة مكنتهم من تحسين طرق الصيد، تجهيز الطعام، والتكيف مع بيئتهم المتغيرة. كما شكلت هذه الابتكارات أساسًا لظهور المجتمعات الزراعية اللاحقة في شمال إفريقيا.
2.تقنيات الصيد وجمع الغذاء
1. تقنيات الصيد
اعتمد القفصيون بشكل أساسي على الصيد كمصدر رئيسي للغذاء، حيث طوّروا أدوات وأساليب متقدمة تتناسب مع بيئتهم المتغيرة.
أ. الأدوات المستخدمة في الصيد
الرماح ذات الرؤوس الحجرية: كانت مزودة بشفرات ميكروليتية حادة تُستخدم لصيد الحيوانات الكبيرة والمتوسطة مثل الغزلان، الظباء، والخنازير البرية.
السهام المزودة برؤوس حجرية مدببة: تمثل تطورًا مهمًا في تقنيات الصيد، حيث زادت من دقة الصيد عن بُعد، خاصة مع التراجع التدريجي للحيوانات الكبيرة.
الشباك والفخاخ: استخدم القفصيون شباكًا بدائية وفخاخ حجرية وخشبية لصيد الحيوانات الصغيرة مثل الأرانب والطيور، خاصة بعد تقلص أعداد الفرائس الكبيرة.
ب. أساليب الصيد
الصيد الجماعي: كان القفصيون يعتمدون على العمل الجماعي في صيد الحيوانات الكبيرة، حيث كانوا يدفعون الفرائس نحو الفخاخ أو باتجاه المنحدرات.
الصيد الانتقائي: مع قلة الموارد، بدأ القفصيون في استهداف أنواع محددة من الحيوانات التي توفر لحمًا أكثر بجهد أقل.
استخدام الكلاب: هناك دلائل على أن القفصيين قد يكونون قد بدأوا في استئناس الكلاب للمساعدة في الصيد وتعقب الفرائس.
2. تقنيات جمع الغذاء
إلى جانب الصيد، كان القفصيون يعتمدون على جمع الغذاء كمصدر أساسي للبقاء، مما ساعدهم في مواجهة التغيرات المناخية وانخفاض أعداد الفرائس.
أ. النباتات البرية والمكسرات
جمع الحبوب البرية: هناك أدلة على أن القفصيين كانوا يجمعون بذور النباتات البرية مثل القمح والشعير البري، مما يشير إلى بدايات الزراعة المبكرة.
استخدام الرحى اليدوية: الأدوات الحجرية لطحن الحبوب تدل على تحضير الغذاء بطريقة أكثر تطورًا.
المكسرات والجذور: كانت مصدرًا مهمًا للغذاء، خاصة في الفصول التي يقل فيها توفر الصيد.
ب. الصيد المائي واستغلال الموارد الساحلية
صيد الأسماك: في المناطق القريبة من الأنهار والبحيرات، كان القفصيون يستخدمون الرماح وشباك الصيد لاصطياد الأسماك.
جمع المحار والقواقع: يُعتقد أن المجتمعات القفصية التي استقرت قرب السواحل قد اعتمدت على المحار والقواقع البحرية كمصدر إضافي للبروتين.
3. تكيف القفصيين مع التغيرات البيئية
مع تدهور المناخ وتزايد الجفاف، اضطر القفصيون إلى تنويع مصادرهم الغذائية عبر:
الاعتماد المتزايد على النباتات البرية لتعويض نقص الصيد.
استخدام تقنيات أكثر تطورًا في الصيد، مثل الفخاخ والرماح ذات الشفرات الدقيقة.
التحول إلى نمط حياة أكثر استقرارًا في بعض المناطق الغنية بالموارد المائية، مما مهد الطريق لظهور المجتمعات الزراعية لاحقًا.
أتاحت تقنيات الصيد المتقدمة والأساليب المبتكرة لجمع الغذاء للحضارة القفصية التكيف مع بيئتهم المتغيرة والاستمرار لآلاف السنين. كما أن اعتمادهم على الحبوب البرية والأدوات الزراعية البدائية ساهم في تمهيد الطريق لظهور المجتمعات النيوليتية في شمال إفريقيا.
3.الأنشطة الاقتصادية وأسلوب الحياة
1. الأنشطة الاقتصادية
أ. الصيد وجمع الغذاء
كان الصيد وجمع الغذاء النشاطين الاقتصاديين الرئيسيين للقفصيين، حيث اعتمدوا على:
صيد الحيوانات الكبيرة والمتوسطة مثل الغزلان والخنازير البرية باستخدام الرماح، السهام، والفخاخ.
صيد الطرائد الصغيرة كالأرانب والطيور، والتي زاد الاعتماد عليها مع تغير المناخ.
صيد الأسماك وجمع المحار في المناطق القريبة من الأنهار والبحيرات.
جمع الحبوب البرية والجذور والمكسرات، مما يشير إلى بدايات التكيف مع الزراعة.
ب. الحرف اليدوية وصناعة الأدوات
إنتاج الأدوات الحجرية باستخدام تقنيات متطورة مثل الضغط المباشر والنحت الدقيق.
صناعة الأدوات العظمية والخشبية، مثل مقابض الأدوات والأسلحة.
معالجة الجلود لصنع الملابس والأغطية، حيث استخدموا المكاشط الحجرية في تنظيف الجلود.
ج. التبادل التجاري البدائي
تشير بعض الأدلة إلى أن القفصيين انخرطوا في نوع من التبادل البدائي مع الجماعات المجاورة، حيث تبادلوا:
الأحجار عالية الجودة مثل الصوان المستخدم في صناعة الأدوات.
الأصداف والمحار من المناطق الساحلية مقابل موارد داخلية.
الجلود والعظام مقابل موارد أخرى نادرة.
2. أسلوب الحياة
أ. نمط الاستيطان والتنقل
كان القفصيون شبه رحّل، حيث تنقلوا بين المناطق بحثًا عن الموارد الغذائية والمياه.
استقروا لفترات أطول في مناطق غنية بالموارد، مثل ضفاف الأنهار والكهوف القريبة من مناطق الصيد.
ب. الملاجئ والمساكن
الكهوف والملاجئ الصخرية كانت المساكن الرئيسية، حيث وفرت الحماية من الحيوانات المفترسة والظروف الجوية.
المخيمات المؤقتة التي شيدوها من جلود الحيوانات وأغصان الأشجار في المناطق المفتوحة أثناء رحلات الصيد.
ج. التنظيم الاجتماعي
عاش القفصيون في مجموعات صغيرة (عشائر أو قبائل) تتكون من العائلات الممتدة.
كان هناك تقسيم للعمل بين الرجال والنساء، حيث اهتم الرجال بالصيد بينما قامت النساء بجمع الغذاء ورعاية الأطفال.
ربما كانت هناك قيادة جماعية تعتمد على الخبرة، خاصة في الصيد واتخاذ القرارات المتعلقة بالهجرة الموسمية.
د. الطقوس والمعتقدات
هناك أدلة على ممارسات رمزية وطقوس جنائزية، حيث دُفنت بعض الجثث مع أدواتها، مما يشير إلى اعتقادهم في الحياة بعد الموت.
ربما مارس القفصيون طقوسًا مرتبطة بالصيد، مثل طلاء الأجساد أو رسم الرموز على الصخور لضمان نجاح الصيد.
اتسمت الحياة الاقتصادية في الحضارة القفصية بالتكيف مع البيئة من خلال الصيد، جمع الغذاء، وصناعة الأدوات. كما أن نمط حياتهم كان مزيجًا بين التنقل والاستقرار المؤقت، مما ساعدهم على الاستفادة من الموارد المتاحة والبقاء في بيئة متغيرة. كان لديهم تنظيم اجتماعي بسيط قائم على التعاون وتقسيم العمل، مما ساعد في استمرارهم لآلاف السنين في شمال إفريقيا.
الفصل الثالث: البعد الاجتماعي والديني للحضارة القفصية
لعب البعد الاجتماعي والديني دورًا مهمًا في تشكيل الحضارة القفصية، حيث اعتمدت مجتمعاتها على التعاون الجماعي في الصيد وجمع الغذاء. تشير الدلائل الأثرية إلى ممارسات جنائزية وطقوس دينية تعكس اعتقادهم بالحياة بعد الموت. كما تظهر الفنون الصخرية رموزًا قد تكون ذات دلالات روحية، مما يعكس تطور الوعي الديني لديهم.
1.أنماط الاستقرار والتنقل
1. نمط الحياة بين التنقل والاستقرار
تميزت الحضارة القفصية بأسلوب حياة شبه مستقر، حيث جمعت بين التنقل الموسمي بحثًا عن الموارد والاستقرار المؤقت في المناطق الغنية بالغذاء والمياه. وقد تأثر هذا النمط بالتغيرات البيئية والمناخية في شمال إفريقيا خلال العصر الحجري الوسيط.
أ. التنقل الموسمي
اعتمد القفصيون على التنقل الدوري بين مناطق الصيد وجمع الغذاء، وفقًا لتغير الفصول وتوفر الموارد.
كانوا يتحركون بين المناطق الصحراوية والرطبة، مستغلين الوديان والمناطق الساحلية في مواسم الجفاف.
كان التنقل يتم في مجموعات صغيرة لتسهيل الحركة وزيادة فرص البقاء.
ب. الاستقرار المؤقت
عند توفر الموارد بكثرة، استقر القفصيون لفترات طويلة في مناطق غنية بالمياه، مثل ضفاف الأنهار والمناطق القريبة من البحيرات.
كان الاستقرار يساعد في تخزين الغذاء ومعالجة الجلود وصناعة الأدوات.
بعض التجمعات طورت مستوطنات شبه دائمة، خاصة في مناطق الصيد الوافرة.
2. أماكن الإقامة والتكيف مع البيئة
أ. الكهوف والملاجئ الصخرية
فضل القفصيون السكن في الكهوف والملاجئ الطبيعية، حيث وفرت الحماية من الحيوانات المفترسة والظروف المناخية القاسية.
تشير الأدلة الأثرية إلى بقايا نار وأدوات حجرية داخل الكهوف، مما يدل على استخدامها كمساكن دائمة خلال فترات الاستقرار.
ب. المخيمات المؤقتة
في الفصول الأكثر جفافًا، كانوا يقيمون مخيمات متنقلة مبنية من الجلود وأغصان الأشجار.
كانت هذه المخيمات تقع في أماكن قريبة من مصادر الغذاء، مثل المناطق العشبية التي تجذب الحيوانات البرية.
ج. الاستقرار قرب الموارد المائية
تركزت بعض التجمعات حول البحيرات والأنهار الموسمية، حيث ساعدت وفرة المياه في ضمان وجود الأسماك والنباتات البرية.
يمكن اعتبار هذه المناطق بداية نمط حياة شبه زراعي، حيث بدأ القفصيون في جمع الحبوب البرية وطحنها.
3. تأثير البيئة على أنماط التنقل والاستقرار
أدت التغيرات المناخية إلى زيادة فترات الجفاف، مما أجبر القفصيين على التنقل بشكل أكبر بحثًا عن الغذاء والماء.
مع تحسن الظروف البيئية في بعض الفترات، استقروا لفترات أطول في مناطق غنية بالحيوانات والنباتات البرية.
تشير بعض الدراسات إلى أن أنماط استقرار القفصيين مهدت الطريق لتطور المجتمعات الزراعية في شمال إفريقيا لاحقًا.
اتسمت حياة القفصيين بالتكيف مع البيئة من خلال التنقل الموسمي بحثًا عن الغذاء والاستقرار المؤقت عند توفر الموارد. ساعدتهم الكهوف والمخيمات المؤقتة على البقاء في بيئة متغيرة، كما أن الاستقرار قرب المياه ومناطق الصيد مهد تدريجيًا لنشوء مستوطنات شبه دائمة في فترات لاحقة.
2.الطقوس والممارسات الدينية
1. الطقوس الجنائزية والمعتقدات حول الموت
تشير الأدلة الأثرية إلى أن القفصيين كانوا يمارسون طقوسًا جنائزية تعكس إيمانهم بحياة بعد الموت أو معتقدات روحية حول الموت، ومن أهم هذه الممارسات:
دفن الموتى في وضعيات محددة: تم العثور على هياكل عظمية مدفونة في وضعيات مقصودة، مثل الوضع الجانبي أو القرفصاء، مما يشير إلى وجود تقاليد دفن متبعة.
مرافقة الموتى بأدوات شخصية: بعض المدافن احتوت على أدوات حجرية، عظام حيوانات، أو صبغات حمراء (مثل المغرة الحمراء)، مما قد يدل على اعتقادهم بأن هذه الأشياء ضرورية في الحياة الأخرى.
استخدام الألوان في الدفن: المغرة الحمراء، التي وجدت في بعض المدافن، قد تكون رمزًا للحياة أو التجدد، وهو تقليد شائع في ثقافات ما قبل التاريخ.
2. الرموز والتماثيل الفنية
على الرغم من قلة الأدلة الفنية، هناك دلائل على أن القفصيين ربما استخدموا الرموز والنقوش للتعبير عن معتقداتهم الدينية:
نقوش صخرية محتملة: في بعض المواقع القفصية، وُجدت أشكال رمزية قد تكون ذات دلالات روحية أو دينية.
تماثيل أو رموز أنثوية: على غرار المجتمعات الأخرى في العصر الحجري، قد يكون لديهم تماثيل رمزية تمثل الخصوبة أو الإلهة الأم، لكن الأدلة المباشرة لا تزال محدودة.
3. طقوس الصيد والتواصل مع الطبيعة
نظرًا لاعتماد القفصيين على الصيد، فمن المحتمل أنهم مارسوا طقوسًا تهدف إلى جلب الحظ في الصيد، مثل:
رقصات أو احتفالات قبل الصيد، ربما لمحاكاة نجاح العملية.
استخدام الرموز أو التمائم لجذب الطرائد أو الحماية من الأخطار.
طقوس شكر بعد الصيد، قد تشمل ترك أجزاء من الفريسة كقربان رمزي.
4. الاعتقاد في القوى الطبيعية والروحانية
من المرجح أن القفصيين قدسوا بعض الظواهر الطبيعية مثل الشمس، القمر، المياه، والجبال، وربما اعتقدوا بوجود أرواح تحكم الطبيعة.
الأدلة على وجود أماكن مقدسة أو حجارة طقسية نادرة، لكن بعض التشكيلات الصخرية قد تكون استخدمت كمواقع للعبادة.
رغم قلة الأدلة المادية، فإن الطقوس الجنائزية، واستخدام الرموز، وطقوس الصيد، تشير إلى أن القفصيين امتلكوا معتقدات دينية وروحية بدائية. كانوا يؤمنون على الأرجح بحياة بعد الموت، وقدسية الطبيعة، وقوى خارقة للطبيعة أثرت على حياتهم اليومية.
3.الفنون والرموز التعبيرية
1. النقوش الصخرية والرسومات البدائية
على الرغم من قلة الأدلة المباشرة على الفنون القفصية، إلا أن بعض المواقع الأثرية في شمال إفريقيا، مثل الكهوف والملاجئ الصخرية، تحتوي على نقوش ورموز قد تعود إلى الحضارة القفصية.
أ. الرموز الهندسية والتجريدية
وُجدت بعض النقوش الصخرية البسيطة التي تحتوي على أشكال هندسية وخطوط متقاطعة، والتي قد تكون ذات معانٍ رمزية أو طقوسية.
قد تمثل هذه الرموز نظامًا للتواصل أو تعبيرًا عن معتقدات دينية وروحية.
ب. استخدام المغرة الحمراء في التلوين
عُثر على آثار المغرة الحمراء في بعض المواقع، مما يشير إلى استخدامها في الرسم على الصخور، تزيين الأجساد، أو طلاء الأدوات.
قد يكون اللون الأحمر رمزًا للحياة، القوة، أو الطقوس الجنائزية.
2. النحت والتماثيل الرمزية
أ. التماثيل الرمزية (الأنثوية والحيوانية)
لا توجد أدلة كثيرة على التماثيل الحجرية في الحضارة القفصية، لكن بالنظر إلى الثقافات الموازية، فمن الممكن أنهم صنعوا تماثيل صغيرة من العظام أو الطين تمثل الخصوبة أو الآلهة.
في ثقافات أخرى من العصر الحجري، ظهرت تماثيل للإلهة الأم، وربما كان للقفصيين مفاهيم مشابهة عن الخصوبة ودورة الحياة.
ب. نحت الأدوات والزخرفة
بعض الأدوات القفصية كانت مزينة بخطوط ونقوش بسيطة، مما قد يشير إلى اهتمامهم بالجمال والرمزية.
هناك دلائل على أن بعض العظام والحجارة كانت محفورة برموز أو زخارف، ربما كوسيلة للتعبير عن الهوية أو الطقوس.
3. الزينة الشخصية والتعبير الفني
أ. الحلي والمجوهرات
استخدم القفصيون الأصداف والعظام والأسنان لصنع القلائد والأساور، مما يدل على وجود حس جمالي لديهم.
بعض الحلي قد تكون مرتبطة بمكانة اجتماعية أو رموز دينية.
ب. طلاء الأجساد
ربما استخدموا المغرة الحمراء أو غيرها من الأصباغ الطبيعية لطلاء أجسادهم، سواء لأغراض جمالية، طقوسية، أو دينية.
رغم ندرة الأدلة المباشرة، إلا أن القفصيين كانوا يمتلكون أشكالًا من الفن البدائي، مثل النقوش الصخرية، الزخارف على الأدوات، استخدام الألوان، وصنع الحلي. هذه الفنون لم تكن مجرد زينة، بل ربما كانت ذات دلالات دينية ورمزية تعكس معتقداتهم وهويتهم الثقافية.
الفصل الرابع: الحضارة القفصية في سياق تطور المجتمعات ما قبل التاريخ
تمثل الحضارة القفصية مرحلة محورية في تطور المجتمعات ما قبل التاريخ بشمال إفريقيا، حيث شهدت تطورًا في الأدوات الحجرية، تقنيات الصيد، والاستقرار النسبي. تأثرت بالمناخ والبيئة، وأسهمت في الانتقال من المجتمعات الصيادة-الجامعة إلى نمط أكثر تنظيماً. كما شكلت أساساً للحضارات اللاحقة، خاصة النيوليتية، من خلال تأثيرها الثقافي والتقني.
1.علاقتها بالحضارات السابقة واللاحقة
1. العلاقة بالحضارات السابقة
تمثل الحضارة القفصية امتدادًا طبيعيًا للتقاليد الثقافية السابقة في شمال إفريقيا، حيث تطورت من المجتمعات البشرية التي سكنت المنطقة خلال العصر الحجري القديم. ومن أبرز تلك العلاقات:
أ. التأثيرات من العصر الحجري القديم العلوي (الباليوليتيك الأعلى)
قبل ظهور الحضارة القفصية، كانت شمال إفريقيا مأهولة بجماعات بشرية استخدمت تقنيات حجرية بسيطة، وتطورت الأدوات تدريجيًا نحو استخدام الأحجار الدقيقة المشذبة.
شهدت الفترة السابقة على الحضارة القفصية بداية ظهور تقنيات الصيد المتقدمة واستخدام الأدوات المركبة، مما مهد الطريق لابتكارات القفصيين.
ب. التأثر بالحضارات الأوروبية والمشرقية
هناك تشابه بين الأدوات القفصية وبعض التقاليد الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال حاليًا)، مما قد يشير إلى تفاعل ثقافي عبر حوض البحر الأبيض المتوسط.
بعض الأدوات الحجرية القفصية تحمل أوجه تشابه مع ثقافة النطوفية في المشرق العربي، والتي ظهرت لاحقًا وأسست لنمط الحياة شبه المستقر.
2. علاقتها بالحضارات اللاحقة
أثرت الحضارة القفصية بشكل مباشر على تطور المجتمعات اللاحقة في شمال إفريقيا، خاصة خلال العصر الحجري الحديث.
أ. الحضارة الإيبيروموريزية (Ibero-Maurusian)
ظهرت الحضارة الإيبيروموريزية بعد الحضارة القفصية، وقد احتفظت بالكثير من الخصائص التقنية للأدوات الحجرية القفصية، مما يشير إلى استمرارية ثقافية.
استخدم الإيبيروموريزيون نفس تقنيات الصيد وجمع الغذاء، لكنهم بدأوا في تطوير أدوات أكثر دقة وتكيفًا مع بيئات أكثر تنوعًا.
ب. تأثيرها على المجتمعات الزراعية الأولى في شمال إفريقيا
تعتبر الحضارة القفصية نقطة انتقالية بين نمط الحياة المعتمد على الصيد وجمع الغذاء وبداية الاستقرار الزراعي في العصر الحجري الحديث.
استمر بعض أحفاد القفصيين في تطوير أنظمة استقرار طويلة الأمد، مما أدى إلى ظهور المجتمعات الزراعية المبكرة.
ج. علاقتها بالأمازيغ والمجتمعات المحلية لاحقًا
بعض الباحثين يعتقدون أن الحضارة القفصية قد تكون إحدى الجذور الثقافية للشعوب الأمازيغية، نظرًا لاستمرارية بعض تقاليدها في شمال إفريقيا.
تطورت ثقافات شمال إفريقيا لاحقًا مع دخول التأثيرات الفينيقية والرومانية، لكنها احتفظت ببعض عناصر الحياة التقليدية التي يمكن إرجاعها إلى القفصيين.
مثلت الحضارة القفصية حلقة وصل مهمة بين العصر الحجري القديم والمجتمعات الزراعية الأولى في شمال إفريقيا. تأثرت بالحضارات السابقة، خاصة تلك التي سبقتها في العصر الحجري القديم، وأثرت في الحضارات اللاحقة مثل الإيبيروموريزيين والمجتمعات الزراعية. يمكن اعتبارها مرحلة انتقالية أساسية في التطور البشري لشمال إفريقيا، حيث مهدت لنشوء أنماط حياة أكثر استقرارًا وأسست بعض السمات الثقافية التي استمرت في المنطقة عبر العصور.
2.تأثيرها على الحضارات النيوليتية في شمال إفريقيا
1. الانتقال من الصيد والجمع إلى الزراعة والتدجين
تمثل الحضارة القفصية (حوالي 10,000-6,000 ق.م) مرحلة انتقالية بين مجتمعات الصيادين-الجامعين في العصر الحجري القديم الأعلى والمجتمعات الزراعية النيوليتية (العصر الحجري الحديث) في شمال إفريقيا. يمكن تلخيص تأثيرها فيما يلي:
استمرار تقنيات الصيد وجمع الغذاء: أساليب الصيد التي طوّرها القفصيون استمرت في المجتمعات النيوليتية، خاصة في المناطق التي لم تعتمد على الزراعة على الفور.
التكيف مع البيئات الجافة: ساعدت معارف القفصيين في استغلال الموارد الطبيعية المتاحة في مناطق السهول والصحارى، مما شكّل أساسًا لتطوير تقنيات الري والزراعة لاحقًا.
2. التأثير في الأدوات والتكنولوجيا
أ. الأدوات الحجرية وتطوير التقنيات الزراعية
استخدم القفصيون تقنيات الميكروليث (الأدوات الحجرية الدقيقة)، والتي استمرت في الحضارات النيوليتية، لكنها تطورت لاحقًا مع ظهور المناجل الحجرية والأدوات الزراعية.
بعض الأدوات القفصية، مثل رؤوس السهام المشذبة، تم اعتمادها لاحقًا في الثقافات النيوليتية لأغراض الصيد أو الدفاع.
ب. الفخار وأدوات التخزين
رغم أن القفصيين لم يطوّروا الفخار، إلا أن بعض تقنياتهم في تخزين الغذاء والاحتفاظ بالبذور قد تكون أثّرت على المجتمعات النيوليتية التي بدأت في صناعة الفخار لاستخدامه في حفظ الحبوب والمياه.
3. أنماط الاستقرار والانتقال إلى الزراعة
أ. ظهور أنماط الاستقرار الجزئي
القفصيون عاشوا في ملاجئ صخرية وكهوف لفترات طويلة، مما قد يكون مهّد لفكرة القرى المستقرة التي ظهرت لاحقًا في العصر النيوليتي.
بعض الأدلة تشير إلى أنهم مارسوا نوعًا من الاستقرار الموسمي، حيث كانوا ينتقلون بين أماكن معينة وفقًا للموارد المتاحة، وهو نموذج استمر في الفترات النيوليتية الأولى.
ب. دور المرأة في الاقتصاد النيوليتي
مجتمعات الصيد والجمع القفصية كانت تعتمد على دور المرأة في جمع الغذاء النباتي، وهو دور ازداد أهمية مع التحول إلى الزراعة في العصر الحجري الحديث.
4. التأثير الثقافي والرمزي
أ. الطقوس والمعتقدات
استمر مفهوم الطقوس الجنائزية والتعامل مع الموت الذي ظهر في العصر القفصي في الحضارات النيوليتية، حيث أصبحت المدافن أكثر تعقيدًا وتضمنت أدوات وشواهد جنائزية.
ربما ساهم القفصيون في ترسيخ بعض المعتقدات حول الطبيعة والخصوبة، والتي ظهرت لاحقًا في شكل تماثيل رمزية وآلهة زراعية في العصر النيوليتي.
ب. الرموز والنقوش
على الرغم من ندرة الفنون القفصية، إلا أن النقوش الصخرية البدائية ربما ألهمت المجتمعات النيوليتية في شمال إفريقيا، حيث ازدهرت الرسوم الصخرية في الصحراء الكبرى مع ظهور الاستقرار الزراعي.
كان للحضارة القفصية تأثير مهم على الحضارات النيوليتية في شمال إفريقيا، حيث شكّلت مرحلة انتقالية من الصيد والجمع إلى الزراعة والاستقرار. ساهمت تقاليدهم في الصيد، أدواتهم الحجرية، أساليب الاستقرار الموسمي، والمعتقدات الدينية في تشكيل المجتمعات النيوليتية، التي اعتمدت لاحقًا على الزراعة والتدجين كأساس لحضارات أكثر تطورًا.
3.دورها في التطور الاجتماعي والاقتصادي للإنسان القديم
1. التطور الاجتماعي
أ. تشكيل الهياكل المجتمعية
أسهمت الحضارة القفصية في ظهور تنظيمات اجتماعية أكثر تعقيدًا مقارنة بالمجتمعات السابقة، حيث بدأت ملامح التقسيم الوظيفي بين الأفراد بالظهور.
كان هناك تقسيم للأدوار بين الصيادين، جامعي الغذاء، وصانعي الأدوات، مما عزّز التعاون داخل الجماعات البشرية.
ب. أنماط الاستقرار والتنقل
اعتمد القفصيون على الاستقرار الموسمي، حيث أقاموا في مناطق معينة لفترات طويلة استجابةً لتوافر الموارد الطبيعية، مما ساعد في نشوء أولى مظاهر الحياة شبه المستقرة.
يُعتقد أنهم كانوا من أوائل الجماعات البشرية التي طوّرت أنظمة تجمعات سكانية صغيرة، تمهيدًا للتحول لاحقًا إلى القرى النيوليتية.
ج. التواصل والتبادل الثقافي
وجود تشابه في الأدوات والتقنيات بين مناطق مختلفة في شمال إفريقيا يدل على أن القفصيين شاركوا في شبكات تبادل ثقافي ومعرفي مع جماعات أخرى.
انتشار الأدوات الحجرية القفصية على نطاق واسع يشير إلى احتمال حدوث تفاعلات اجتماعية وتبادل للمعرفة بين المجموعات البشرية.
2. التطور الاقتصادي
أ. تقنيات الصيد المتقدمة
طوّر القفصيون أدوات حجرية متطورة مثل رؤوس السهام الدقيقة والحراب والمثاقب، مما زاد من كفاءة الصيد وساعد في تنويع مصادر الغذاء.
استخدامهم للمصائد والفخاخ البدائية يشير إلى وعيهم بكيفية إدارة الموارد الطبيعية بشكل أكثر كفاءة.
ب. استغلال الموارد الطبيعية
اعتمدوا على صيد الحيوانات البرية مثل الغزلان والخنازير البرية، بالإضافة إلى جمع النباتات، مما عزّز مفهوم التوازن البيئي في استغلال الموارد.
استعملوا الأدوات الحجرية والعضوية بشكل واسع، مما يعكس وعياً متزايدًا بأهمية إعادة استخدام الموارد وتحسين تقنيات الصيد والجمع.
ج. التمهيد لنشوء الاقتصاد الزراعي
رغم أنهم لم يمارسوا الزراعة، إلا أن أنماطهم في تخزين الغذاء واستغلال النباتات المحلية ربما ساهمت في ظهور فكرة الزراعة لاحقًا.
يُعتقد أن المعرفة القفصية بالنباتات الصالحة للأكل ساعدت في الانتقال نحو تدجين بعض الأنواع النباتية خلال العصر النيوليتي.
لعبت الحضارة القفصية دورًا أساسيًا في التطور الاجتماعي والاقتصادي للإنسان القديم، حيث طوّرت أنماط الاستقرار الأولية، أنظمة الصيد الفعالة، وتقنيات تخزين الغذاء. أسهمت هذه التطورات في تشكيل المجتمعات النيوليتية لاحقًا، مما جعلها حجر الأساس لظهور المجتمعات الزراعية والحضرية في شمال إفريقيا.
الخاتمة
الخاتمة
تُعدُّ الحضارة القفصية إحدى أهم الحضارات التي شهدتها منطقة شمال إفريقيا خلال العصر الحجري الوسيط، حيث مثّلت مرحلة انتقالية محورية بين المجتمعات الصيادة-الجامعة والمجتمعات النيوليتية المستقرة. تميزت هذه الحضارة بانتشارها الواسع في بلاد المغرب القديم، وامتدت آثارها عبر تونس، الجزائر، وليبيا، مما يجعلها إحدى الركائز الأساسية لفهم تطور الإنسان القديم في المنطقة.
لقد أثّر الموقع الجغرافي والمناخ بشكل كبير على نمط حياة القفصيين، حيث تأقلموا مع البيئات المتنوعة من السهول الخصبة إلى المناطق الصحراوية، معتمدين على تقنيات صيد متطورة وجمع النباتات البرية. وقد لعب المناخ دورًا أساسيًا في تشكيل أسلوب معيشتهم، إذ شهدت المنطقة تحولات مناخية دفعتهم إلى تبنّي استراتيجيات بقاء جديدة.
على الصعيد الزمني، امتدت الحضارة القفصية بين حوالي 10,000 و6,000 ق.م، وكانت معاصرة لحضارات أخرى في البحر المتوسط وإفريقيا جنوب الصحراء. وقد تميّزت باستخدامها لتقنيات الأدوات الحجرية الدقيقة (الميكروليث) التي أثرت لاحقًا في ثقافات ما قبل النيوليتي في المنطقة. كما أن تطور أساليب الصيد وجمع الغذاء ساهم في تشكيل الهياكل الاقتصادية الأولية التي أدّت لاحقًا إلى ظهور المجتمعات الزراعية.
اجتماعيًا، أظهرت الأدلة الأثرية وجود أنماط من التنظيم الجماعي والتقسيم الوظيفي، حيث ساهمت هذه المجتمعات في تأسيس شكل من أشكال التعاون بين الأفراد، مما ساعد على تطوير أساليب الصيد الجماعي وتقنيات استغلال الموارد الطبيعية. كما تشير بعض الدلائل إلى وجود طقوس دينية ودفن جنائزي، مما يعكس تطورًا في الوعي الروحي للقفصيين.
أما من حيث التأثير، فقد ساهمت الحضارة القفصية في تمهيد الطريق نحو التحول النيوليتي، حيث أثّرت في المجتمعات الزراعية اللاحقة من خلال تقنياتها وأسلوب معيشتها. ويمكن اعتبارها نقطة تحول في تطور المجتمعات البشرية في شمال إفريقيا، حيث ساهمت في تكوين ملامح الهوية الثقافية لسكان المنطقة.
في الختام، يمكن القول إن الحضارة القفصية لم تكن مجرد مرحلة زمنية عابرة، بل كانت حلقة وصل جوهرية بين عصور ما قبل التاريخ والحضارات اللاحقة، وأسهمت بشكل كبير في تطوير الأسس الاجتماعية والاقتصادية لإنسان شمال إفريقيا، مما يجعل دراستها أمرًا بالغ الأهمية لفهم أصول الحضارات المغاربية القديمة.
المراجع
1- كتب عن الحضارة القفصية وعصور ما قبل التاريخ في شمال إفريقيا
عبد العزيز صوفي – ما قبل التاريخ في المغرب العربي: دراسة أثرية
عبد الرحمن المودن – ما قبل التاريخ في شمال إفريقيا: دراسة في أصول المجتمعات القديمة
حسن البكري – المجتمعات القفصية في العصر الحجري الوسيط بشمال إفريقيا
حسين العشي – الإنسان في عصور ما قبل التاريخ بشمال إفريقيا
2- كتب عن أدوات العصر الحجري وتطور التقنيات
عبد الجليل بوقطف – التكنولوجيا الحجرية في عصور ما قبل التاريخ بالمغرب العربي
مصطفى حنفي – الأدوات الحجرية في عصور ما قبل التاريخ: دراسة أثرية مقارنة
علي موسى – تطور الأدوات والأسلحة في العصر الحجري بشمال إفريقيا
3- كتب عن المناخ والبيئة وأثرها على المجتمعات القديمة
محمد عبد القادر – المناخ والبيئة في عصور ما قبل التاريخ بالمغرب الكبير
كمال الدين السعدي – التحولات المناخية وأثرها على المجتمعات المغاربية القديمة
4- كتب عن الاقتصاد والأنشطة البشرية في عصور ما قبل التاريخ
عبد الحميد الزهري – الاقتصاد والصيد وجمع الغذاء في مجتمعات ما قبل التاريخ بشمال إفريقيا
محمد الهادي بن رمضان – الزراعة والاستقرار في العصر الحجري الوسيط بشمال إفريقيا
5- كتب عن الفنون والرموز التعبيرية والطقوس في العصر القفصي
جمال خليل – الرسوم الصخرية والفنون التعبيرية في عصور ما قبل التاريخ بالمغرب القديم
محمد عمار – المعتقدات والطقوس الدينية في مجتمعات العصر الحجري بشمال إفريقيا
سعيد القاسمي – المدافن والطقوس الجنائزية في الحضارات القفصية والنيوليتية
تعليقات