تصنيف التراث الثقافي
يشكل تصنيف التراث الثقافي خطوة أساسية في فهم وتقدير تنوع الإبداع الإنساني عبر العصور، إذ يُسهم في تنظيم المعرفة المرتبطة بالتراث، وتحديد أولويات الحماية والصون. ويتطلب هذا التصنيف تحديدًا دقيقًا للمفاهيم، وتمييزًا بين أنواعه المادية وغير المادية، إلى جانب الالتزام بالمعايير الدولية المعتمدة. كما أنه يواجه تحديات متعددة، منها ما هو مفاهيمي ومنها ما يرتبط بالسياسات أو الإمكانات التقنية. ويُعد تصنيف التراث ركيزة أساسية لتفعيل دوره في التنمية الثقافية والاجتماعية، وضمان استمراريته كعنصر حيّ في الذاكرة الجماعية، مما يجعله ضرورة علمية وثقافية ووطنية في آن واحد.
1.ماهية التراث الثقافي وأهميته
يُعدّ التراث الثقافي أحد الركائز الأساسية التي تستند إليها هوية الشعوب، ويشكّل الذاكرة الحية للمجتمعات، بما يحمله من قيم، وممارسات، ومعتقدات، ومنجزات مادية وغير مادية تراكمت عبر العصور. ويشكّل الاهتمام بتصنيفه خطوة أولى نحو فهمه وصونه وتطوير السياسات المناسبة لحمايته. ومن هنا جاءت الحاجة إلى تصنيف التراث الثقافي لتحديد أشكاله ومعاييره، بغية إدماجه ضمن المنظومة الوطنية والدولية للحفاظ على التراث.
يعرف التراث الثقافي بأنه "كل ما خلّفته الأجيال السابقة من موروثات حضارية، مادية أو معنوية، تعبّر عن التجربة الإنسانية عبر الزمن". ويشمل ذلك المعالم الأثرية، المدن القديمة، العادات، الفنون، اللغة، الطقوس، المعارف، الصناعات التقليدية وغيرها. وقد تبنّت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) هذا المفهوم، ووسّعته ليشمل أبعادًا جديدة ظهرتا في العصر الحديث.
2. الحاجة إلى تصنيف التراث الثقافي
يمثل تصنيف التراث الثقافي أداة أساسية لفهم وتقدير هذا الموروث المتنوع، إذ يساعد على تنظيم المعرفة المتعلقة به، ويُيسّر حمايته وصونه ضمن الأطر المؤسسية والقانونية. ويأتي هذا التصنيف نتيجة لحاجة ملحة نابعة من التحديات التي تواجه المجتمعات في العصر الحديث، من حيث تسارع التحولات الاجتماعية، وتوسع النشاطات العمرانية، وتأثير العولمة، وتراجع بعض الممارسات الثقافية التقليدية.
وتبرز الحاجة إلى تصنيف التراث الثقافي في عدد من الجوانب الجوهرية، من بينها:
1. تحقيق الفهم الشامل للتراث: يُتيح التصنيف إمكانية تحليل التراث في أبعاده المختلفة، المادية وغير المادية، مما يساعد على إبراز تكامل عناصر الثقافة عبر العصور.
2. وضع سياسات حماية فعالة: يسمح التصنيف بتحديد العناصر التي تحتاج إلى حماية عاجلة، كما يساعد في وضع أولويات واستراتيجيات لصون هذا التراث اعتمادًا على نوعه وطبيعته.
3. تسهيل عمليات التوثيق والتسجيل: عندما يكون التراث مصنفًا وفق معايير واضحة، يصبح من السهل توثيقه، سواء محليًا أو ضمن القوائم الدولية مثل قائمة اليونسكو للتراث العالمي أو قائمة التراث غير المادي.
4. تعزيز الجهود التعليمية والبحثية: يُشكل التصنيف مرجعية مهمة للمؤسسات الأكاديمية والبحثية التي تدرس التراث، مما يُساهم في إنتاج معرفة دقيقة ومبنية على أسس علمية.
5. تمكين المجتمعات من إعادة اكتشاف هويتها: يساعد التصنيف المجتمعات المحلية على إعادة التواصل مع مكوناتها الثقافية وتقديرها، بما يسهم في تعزيز الشعور بالانتماء وصون الذاكرة الجماعية.
6. التحفيز على تنمية السياحة الثقافية: من خلال تحديد وتصنيف المواقع والمعالم والعناصر ذات القيمة التراثية، يمكن تطوير برامج سياحية مستدامة قائمة على أسس علمية وتنموية.
7. دعم السياسات الثقافية والتنموية: يُعتبر التصنيف أداة فعالة بيد الحكومات والجهات الفاعلة لوضع خطط تنموية تراعي الثقافة والهوية وتُسهم في تحقيق التنمية المستدامة.
لذا فإن تصنيف التراث الثقافي ليس عملية شكلية أو أكاديمية فحسب، بل هو ضرورة حضارية واستراتيجية لضمان استمرارية هذا التراث كعنصر حيّ في حياة المجتمعات، وليس فقط كأثر من الماضي.
3. التصنيف العام للتراث الثقافي
ينقسم التراث الثقافي تصنيفيًا إلى فئات رئيسية بناءً على طبيعته وخصائصه المادية أو اللامادية. ويهدف هذا التصنيف إلى تسهيل فهم أنواعه وتوجيه الجهود الوطنية والدولية لصيانته، حيث أصبح هذا التنظيم أداة مركزية في العمل الثقافي والمؤسسي، لاسيما بعد أن تبنّت المنظمات الدولية، مثل اليونسكو، أطرًا واضحة للتفريق بين أنواع التراث وتحديد معايير إدراجه ضمن قوائم الحماية العالمية.
—> . التراث الثقافي المادي
يشير هذا النوع إلى كافة العناصر الملموسة من التراث، وهي التي يمكن رؤيتها أو لمسها أو الاحتفاظ بها. ويشمل:
أ. التراث المعماري والأثري
- المواقع الأثرية: مثل المدن القديمة، المعابد، المدافن، الحصون، والقصور التي تعكس حقبًا تاريخية متنوعة.
- المعالم الدينية والتاريخية: المساجد، الكنائس، الأديرة، الأضرحة، التي تحمل طابعًا مقدسًا أو دينيًا مرتبطًا بهوية جماعية.
- المباني التقليدية: مثل الأسواق، البيوت القديمة، المنشآت العمرانية الشعبية التي تعكس الخصوصية المعمارية والثقافية لمجتمعاتها.
ب. التراث المنقول
- التحف والقطع الأثرية: أدوات الحياة اليومية القديمة، الأسلحة، الأواني، الحلي.
- المخطوطات والوثائق: الكتب القديمة، المصاحف، الرقوق، الوثائق الإدارية أو العلمية التي تحمل معلومات تاريخية نادرة.
- الأزياء التقليدية والمجوهرات: التي تمثل التعبير الثقافي والهوية الاجتماعية لجماعة ما.
ج. التراث الطبيعي ذو البُعد الثقافي
- بعض المواقع الطبيعية التي اكتسبت رمزية دينية أو روحية أو أسطورية في المخيلة الشعبية، كالجبل المقدس أو البحيرة التي تحيط بها أسطورة.
—> 2. التراث الثقافي غير المادي
وهو الموروث الحي الذي تنتجه المجتمعات ويتناقل شفهيًا أو بالممارسة، ويُعد أكثر عرضة للزوال بفعل العولمة والتغيرات الاجتماعية. ويشمل:
أ. التقاليد الشفوية وأشكال التعبير
- القصص والأساطير الشعبية، الحكم والأمثال، الأغاني التقليدية، الشعر الملحون، الملاحم والمرويات التاريخية.
ب. فنون الأداء
- الرقصات التقليدية، الموسيقى المحلية، العروض المسرحية الشعبية.
ج. الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات
- العادات المرتبطة بالمناسبات كالزواج، الميلاد، الحصاد، الأعياد، المواسم الدينية، الطقوس الروحانية.
د. المعارف والممارسات المرتبطة بالطبيعة والكون
- الطب الشعبي، الفلك الزراعي، التنجيم التقليدي، أنظمة الري التقليدية، الاستدلال بالنجوم والمواسم.
هـ. المهارات الحرفية التقليدية
- مثل النسيج، صناعة الفخار، الحدادة، النجارة، حفر الخشب، بناء القوارب، زخرفة الجدران والأقمشة.
—> 3. التراث الثقافي الرقمي
ظهر هذا التصنيف مؤخرًا نتيجة التقدم التكنولوجي، ويشمل أشكالًا من التراث التي يتم توثيقها أو إنشاؤها رقميًا:
- الأرشيفات الرقمية: تسجيلات صوتية، صور، أفلام وثائقية، وثائق ممسوحة ضوئيًا.
- المتاحف الافتراضية: التي تتيح عرض المحتويات الثقافية بتقنيات الواقع المعزز أو الواقع الافتراضي.
- المحتوى التفاعلي: مثل الألعاب الرقمية التي تحاكي الموروث الثقافي، أو الخرائط الثقافية التفاعلية.
يُظهر هذا التصنيف أن التراث الثقافي متنوع في أشكاله، ويعكس مدى ثراء الإبداع البشري والتجربة الإنسانية عبر الزمن. كما يُبرز أهمية التعامل مع كل نوع وفق خصائصه المميزة، لضمان صونه ونقله إلى الأجيال القادمة.
4. المعايير الدولية لتصنيف التراث الثقافي
تقوم المعايير الدولية لتصنيف التراث الثقافي على أسس علمية ومنهجية وضعتها منظمات دولية، أبرزها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، بهدف توحيد المفاهيم والتوجهات بشأن ما يُعتبر تراثًا ثقافيًا جديرًا بالحماية والتثمين. وقد جاءت هذه المعايير استجابة لحاجة ملحة إلى وضع أطر مرجعية تسهم في تعزيز العدالة الثقافية، وحفظ التراث كجزء لا يتجزأ من الذاكرة الإنسانية المشتركة.
وتستند هذه المعايير إلى عدد من المواثيق الدولية، أبرزها:
- اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي (1972)
- اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي (2003)
- اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح (1954)
- اتفاقية اليونسكو بشأن الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية (1970)
1. المعايير المعتمدة للتراث الثقافي المادي
تُحدَّد المعالم والمواقع التي تُدرج ضمن قائمة التراث العالمي الثقافي بناءً على عدد من المعايير، من أبرزها:
1. القيمة العالمية الاستثنائية: أن يكون للموقع أو المعلم أهمية فريدة تتجاوز الحدود الوطنية.
2. تمثيل عبقرية خلاقـة للإنسان: مثل المواقع ذات التصميم المعماري المتميز أو الابتكار التكنولوجي.
3. إبراز تبادل مهم للقيم الإنسانية: في مجال العمارة أو الفن أو تخطيط المدن.
4. أن يكون مثالًا بارزًا على نوع معماري أو مجموعة معمارية أو تكنولوجية تمثل مرحلة مهمة من التاريخ البشري.
5. أن يكون مرتبطًا بأحداث تاريخية أو تقاليد حية أو معتقدات ذات أهمية عالمية.
2. المعايير المعتمدة للتراث الثقافي غير المادي
أما بالنسبة للتراث غير المادي، فتركّز المعايير الدولية على الجوانب التالية:
1. الهوية الثقافية: يجب أن يعكس العنصر الهوية الثقافية لجماعة بشرية ويكون جزءًا من ممارساتها اليومية.
2. الانتقال بين الأجيال: لا بد أن يكون قابلاً للانتقال الشفهي أو العملي بين الأجيال.
3. القابلية للاستدامة: يشترط أن يكون العنصر قابلًا للاستمرار في ظل دعم مناسب دون إخلال بطبيعته الأصيلة.
4. مشاركة المجتمعات المحلية: ينبغي أن يكون إدراج العنصر نابعًا من رغبة المجتمعات نفسها، لا من فرض خارجي.
5. عدم تعارضه مع حقوق الإنسان: يجب ألا يحتوي على مظاهر عنف أو تمييز أو ممارسات تهين كرامة الإنسان.
3. دور الدول والمنظمات الدولية
تُلزم المعايير الدولية الدول الأطراف بالعمل على ما يلي:
- إنشاء قوائم وطنية للتراث الثقافي.
- تقديم ملفات ترشيح شاملة إلى الجهات المختصة.
- توفير خطط لحماية العناصر المرشحة.
- إشراك المجتمعات المحلية في عمليات الصون والتوثيق.
- التقيّد بالإبلاغ الدوري حول حالة العناصر المُدرجة ضمن القوائم الدولية.
4. أهمية هذه المعايير
1. ضمان الاعتراف الدولي: تعزز هذه المعايير فرص حصول التراث على دعم مالي وفني من المجتمع الدولي.
2. توحيد مفاهيم التصنيف: تسهم في توحيد المفاهيم بين الدول والمؤسسات البحثية.
3. تحقيق العدالة الثقافية: من خلال الاعتراف بتنوع أشكال التعبير الثقافي واحترام الخصوصيات المحلية.
4. التصدي للأخطار المحدقة: تُمكن من تحديد الأولويات في الحماية، خاصة في حالات النزاعات أو الكوارث الطبيعية.
إن الالتزام بالمعايير الدولية لا يعني طمس الخصوصية الثقافية، بل هو تأكيد على دور التنوع الثقافي في إغناء الحضارة الإنسانية. كما أن هذه المعايير تمنح التراث بعدًا إنسانيًا كونيًا، يعلو فوق الاعتبارات المحلية، ويُسهم في بناء جسور التفاهم بين الشعوب.
5. العلاقة بين أنواع التراث الثقافي
يُعدّ التراث الثقافي نسيجًا متكاملًا لا يمكن تجزئته إلى وحدات مستقلة دون فقدان جزء من معناه ودلالته. فرغم أن التصنيفات العلمية تُفرق بين "التراث المادي" و"غير المادي" و"الرقمي" لأغراض الدراسة والحماية والتنظيم، إلا أن العلاقة بين هذه الأنواع علاقة تفاعلية وتكاملية، تعكس أوجه الترابط العميق بين الإنسان ومحيطه عبر الزمن.
1. الترابط بين المادي وغير المادي
يُعدّ هذا الارتباط الأكثر وضوحًا في واقع المجتمعات التقليدية، حيث لا يمكن فهم المباني والمواقع دون الإلمام بالوظائف الطقسية أو الاجتماعية التي كانت تُمارس فيها. على سبيل المثال:
- المساجد والمعابد والكنائس لا تُفهم كمجرد عمارة مادية، بل تُرتبط بطقوس دينية شفوية، وأغانٍ وأناشيد مقدسة، وسلوكيات جماعية تُصنف ضمن التراث غير المادي.
- الأسواق الشعبية والمنازل التقليدية تُرتبط بالحرف، وأنماط العيش، والعادات الاجتماعية التي تُمارس داخلها، مما يجعل من فهمها منقوصًا بدون معرفة السياقات غير المادية المرافقة لها.
- الرقصات الشعبية والاحتفالات الموسمية غالبًا ما تؤدى في ساحات محددة أو في بيئات معمارية خاصة، ما يربط الممارسة الشفهية أو الحركية بالمكان التاريخي.
2. العلاقة بين التراث الرقمي وبقية الأنواع
مع تطور التقنيات الرقمية، برز دور "التراث الثقافي الرقمي" كوسيط توثيقي وحمائي للأنواع الأخرى من التراث، بل وأصبح في بعض الحالات وسيلة للحفاظ عليها في حالات التهديد أو الزوال، مثل:
- رقمنة المخطوطات والتحف النادرة لضمان عدم ضياعها بفعل العوامل الزمنية أو الكوارث.
- تسجيل العروض الشفوية والرقصات التقليدية بالصوت والصورة كطريقة لصون التراث غير المادي.
- إنشاء متاحف رقمية افتراضية تُحاكي البيئات الأصلية وتُعيد إحياء العلاقات بين المكونات التراثية دون الحاجة للتنقل.
ويُعد هذا التكامل بين الرقمي والمادي وغير المادي خطوة محورية في تعزيز صمود التراث أمام التحولات الكبرى.
3. التراث كشبكة متعددة الأبعاد
في كثير من الأحيان، يتجلى التراث الثقافي في شكل "شبكة معقدة" من العناصر التي تُغذي بعضها البعض:
- موقع أثري (تراث مادي) → يؤوي احتفالًا موسميًا (تراث غير مادي) → يتم توثيقه رقميًا (تراث رقمي).
- حرفة تقليدية (غير مادية) → تُمارس في مشغل تاريخي (مادي) → يتم تدريسها عبر منصة إلكترونية (رقمي).
- قصة شعبية (شفوية) → تُروى داخل منزل تقليدي (مادي) → تُحول إلى فيلم وثائقي (رقمي).
4. التحديات المرتبطة بتكامل التصنيفات
رغم أهمية هذا التكامل، إلا أن التمييز الإداري أو القانوني بين الأنواع أحيانًا ما يؤدي إلى إغفال البعد التكاملي، مما يستدعي:
- اعتماد مقاربات شمولية في إعداد ملفات تصنيف التراث.
- تعزيز التعاون بين المؤسسات المختلفة (أثرية، ثقافية، رقمية).
- تطوير استراتيجيات توثيق تشاركية تراعي كافة الأبعاد الثقافية المرتبطة بالعناصر المرشحة.
إن فهم العلاقة بين أنواع التراث الثقافي لا يهدف فقط إلى التصنيف الأكاديمي، بل إلى إدراك البنية التحتية المعرفية والروحية التي تشكّل ذاكرة الشعوب. ومتى ما أُخذ هذا التكامل بعين الاعتبار، بات بالإمكان وضع سياسات صون أكثر فعالية وعدالة واستدامة.
6. أهمية تصنيف التراث الثقافي في السياسات الوطنية
يُعدّ تصنيف التراث الثقافي خطوة جوهرية في بناء السياسات الوطنية الخاصة بالهوية، والتنمية المستدامة، وحماية الذاكرة الجماعية. إذ لا يمكن لأي دولة أن تضع استراتيجيات ناجعة لصون تراثها وتفعيله في المجال العمومي من دون أن تملك منظومة تصنيف دقيقة تُحدد طبيعة هذا التراث، وأنواعه، ومدى أهميته التاريخية والرمزية والمجتمعية.
1. أداة للتخطيط الثقافي والتنمية الشاملة
يساعد التصنيف على تحويل التراث من مجرد رصيد رمزي إلى عنصر فعّال في التنمية الوطنية، من خلال:
- تحديد الأولويات في مشاريع الترميم والحماية بناءً على درجة الأهمية الثقافية والتاريخية.
- ربط التراث بمشاريع السياحة الثقافية بما يُعزّز من مساهمته في الاقتصاد المحلي.
- إدماج التراث في برامج التعليم بوصفه أداة لبناء المواطنة الثقافية وتعزيز الهوية الوطنية.
2. دعم السيادة الثقافية والاعتراف العالمي
يُشكّل وجود نظام وطني دقيق لتصنيف التراث أداة من أدوات السيادة الثقافية، إذ يمكن للدول من خلاله:
- إثبات ملكيتها الرمزية لعناصر تراثية قد تكون محل نزاع أو سرقة أو ادّعاء خارجي.
- تقديم ملفات قوية لترشيح مواقعها لقوائم التراث العالمي، استنادًا إلى معايير واضحة.
- حماية العناصر اللامادية من التحريف أو الإساءة في الوسائط الإعلامية أو التجارية.
3. ضمان حماية قانونية وتشريعية
من خلال التصنيف، تستطيع الدولة توفير إطار قانوني لحماية التراث الثقافي ضد:
- الهدم أو التشويه العمراني.
- الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية.
- اندثار العناصر غير المادية بسبب الإهمال أو العولمة الثقافية.
كما يسمح التصنيف بتحديد المسؤوليات المؤسساتية بين الوزارات، والهيئات الثقافية، ومراكز البحث، والسلطات المحلية.
4. تعزيز المشاركة المجتمعية والتنوع الثقافي
يُعدّ التصنيف الوطني، حين يُبنى على مقاربة تشاركية، وسيلة لتعزيز انخراط المجتمعات المحلية في صون تراثها، من خلال:
- الاعتراف بتنوّع الثقافات المحلية داخل الدولة الواحدة.
- تشجيع المبادرات الأهلية في التوثيق والمشاركة في ملفات التصنيف.
- رفع الوعي العام بقيمة التراث كجزء من الحياة اليومية، لا كعنصر متحفي معزول.
5. مرجعية للسياسات الإعلامية والتعليمية
يوفّر التصنيف الوطني قاعدة بيانات ضرورية لتوجيه السياسات التربوية والإعلامية، بحيث:
- يُستثمر التراث الثقافي في تطوير مناهج وطنية تُغرس فيها قيم الانتماء والاحترام المتبادل.
- يُستعمل كأداة لبناء سردية وطنية متماسكة تعكس تاريخ البلاد وتعدّد مكوناته.
- يُنتج محتوى معرفي وثقافي (كتب، أفلام، معارض، وثائقيات) مستند إلى معايير دقيقة.
إنّ تصنيف التراث الثقافي ليس مجرد تمرين تقني، بل هو عمل استراتيجي عميق يمسّ صلب السيادة والهوية والتنمية. فكلما امتلكت الدول خرائط دقيقة لتراثها المصنَّف، زادت قدرتها على الدفاع عنه، وتفعيله، وإدماجه في مشروعها الوطني الشامل.
7. تحديات تصنيف التراث الثقافي
رغم الأهمية البالغة لعملية تصنيف التراث الثقافي في توجيه السياسات الوطنية وصونه على المستوى المحلي والدولي، إلا أن هذه العملية تواجه مجموعة من التحديات المعقدة التي تُعيق فاعليتها، وتفرض على الدول والمؤسسات الثقافية والبحثية مراجعات متكررة في آلياتها ومعاييرها. وتتوزع هذه التحديات بين ما هو مفاهيمي، وما هو مؤسسي، وتقني، واجتماعي، وحتى سياسي.
1. تحديات مفاهيمية ومعيارية
تواجه عملية التصنيف إشكالات مرتبطة بتحديد المفاهيم والمعايير، من أبرزها:
- ضبابية المفاهيم بين الأنواع المختلفة للتراث (مادي، غير مادي، رقمي)، مما يُصعّب وضع حدود فاصلة دقيقة.
- اختلاف المعايير الدولية والوطنية في تحديد القيمة التراثية، حيث قد لا تتطابق معايير منظمة اليونسكو مع السياقات المحلية.
- تعدد التأويلات الثقافية لعنصر تراثي واحد، خاصة في المجتمعات المتعددة الأعراق والديانات واللغات.
2. تحديات تقنية ولوجستية
تعاني أغلب الدول، خاصة النامية، من ضعف الإمكانات التقنية والبشرية اللازمة لإنجاز تصنيفات دقيقة وشاملة، ومن ذلك:
- نقص أدوات التوثيق المتقدمة كالمسح الرقمي ثلاثي الأبعاد، والتصوير الجوي، وبرمجيات إدارة قواعد البيانات التراثية.
- قلة الموارد البشرية المؤهلة في مجالات علم الآثار، الأنثروبولوجيا، التراث غير المادي، والتحليل الرقمي.
- صعوبة الوصول إلى بعض المواقع التراثية لأسباب جغرافية أو أمنية أو لوجستية.
3. تحديات مؤسساتية وتشريعية
تُعد البنية الإدارية والتشريعية غير المتماسكة من بين أبرز العوائق، ومنها:
- تداخل الصلاحيات بين المؤسسات الثقافية، ما يؤدي إلى تضارب في المهام وتأخر التصنيف.
- ضعف التنسيق بين الجهات المعنية (الوزارات، البلديات، الجامعات، المجتمع المدني).
- غياب تشريعات ملزمة تنص على ضرورة التصنيف كمرحلة أولى لأي إجراء ترميمي أو تنموي يمس المواقع التراثية.
4. تحديات اجتماعية وثقافية
يلعب المجتمع دورًا محوريًا في عملية التصنيف، غير أن هناك عوائق تحدّ من هذا الدور، مثل:
- ضعف الوعي المجتمعي بقيمة التراث وغياب ثقافة التوثيق والمشاركة.
- الصراعات الهوياتية أو الجهوية التي تُفضي إلى تهميش بعض المكونات الثقافية بحجة عدم تمثيلها لـ"الهوية الوطنية الجامعة".
- التحفظات الاجتماعية أو الدينية إزاء بعض مظاهر التراث غير المادي (كالرقص، أو الطقوس الروحانية).
5. تحديات سياسية وصراعات الذاكرة
قد يُستخدم تصنيف التراث كأداة لخدمة أجندات سياسية، مما يؤدي إلى:
- إقصاء بعض المكونات الثقافية المرتبطة بجماعات مهمشة أو أقليات دينية/عرقية.
- تسييس التصنيف لخدمة رواية وطنية أحادية، بدل إبراز التعدد الثقافي.
- توظيف التصنيف في الصراعات الإقليمية أو الدولية لتأكيد السيادة أو الادّعاء بحقوق تاريخية على مواقع معيّنة.
إنّ مواجهة هذه التحديات تقتضي تبنّي رؤية شمولية، تقوم على تحديث المفاهيم، وتعزيز الشفافية، وبناء شراكات مؤسسية متكاملة، وإشراك المجتمعات المحلية في مختلف مراحل التصنيف. فالتراث ليس ذاكرة النخبة، بل هو ملك جماعي لا تكتمل صيانته دون اعتراف صريح بكل تعقيداته وتناقضاته وسياقاته.
خاتمة
إنّ تصنيف التراث الثقافي يُشكّل حجر الزاوية في أيّ مقاربة منهجية تروم صون الذاكرة الجماعية وتعزيز الهوية الوطنية وتفعيل الثقافة في التنمية المستدامة. فمن خلال تحديد المفاهيم وضبط المعايير، يصبح بالإمكان التمييز بين مكونات التراث المادي وغير المادي، الثقافي والطبيعي، الرسمي والمحلي، مما يوفّر أداة معرفية وإجرائية لترتيب الأولويات، وتوجيه السياسات، وتحقيق التوازن بين مقتضيات الحماية ومتطلبات التثمين.
لقد أظهرت التجربة الدولية، كما هو الحال في منظمة اليونسكو، أن فعالية التصنيف لا تتوقف على الجانب القانوني أو الإداري فحسب، بل تتطلب أيضًا منظورًا تشاركياً يُنصف جميع مكونات المجتمع، بما في ذلك الفئات المهمّشة والجماعات الأصلية. فالمعايير الدولية تسعى إلى تحقيق التوازن بين القيم العالمية والقيم المحلية، مما يستدعي من الدول تطوير آليات وطنية دقيقة، تراعي خصوصياتها الثقافية دون الإخلال بالتزاماتها الدولية.
لكن في المقابل، تواجه عملية التصنيف تحديات جمّة، منها ما يتصل بتعقيد المفاهيم، ومنها ما يرتبط بالموارد التقنية والمؤسسية، فضلاً عن الإشكالات الاجتماعية والسياسية التي قد تُقحم التصنيف في صراعات الهويات أو توظيفات إيديولوجية. هذه التحديات لا تُضعف من أهمية التصنيف، بل تؤكد ضرورة تجاوزه إلى مقاربة شاملة تُدمج البعد العلمي بالمجتمعي، وتُراهن على التعددية والشفافية.
إنّ تصنيف التراث الثقافي، إذن، ليس مجرّد عمل توثيقي أو قانوني، بل هو فعل سيادي، ورؤية استراتيجية، وعمل تواصلي عميق يُعيد وصل الحاضر بالماضي، ويُمهّد لبناء مستقبل ثقافي أكثر عدلاً وتنوعًا وتوازناً.
مراجع
1. عفيف البهنسي – التراث والهوية: دراسة في المفهوم والتطبيق، دار الفكر، دمشق، 2005.
يتناول المفاهيم العامة للتراث الثقافي، وعلاقته بالهوية والانتماء الوطني، مع عرض نظري ومنهجي لمقومات التصنيف.
2. منظمة اليونسكو – المكتب الإقليمي في بيروت – صون التراث الثقافي غير المادي: دليل للتطبيق في السياسات العامة، بيروت، 2012.
مرجع تطبيقي مهم يشرح معايير التصنيف الدولية للتراث غير المادي، وآليات إدراجه في السياسات الوطنية.
3. محمد شبانة – التراث الثقافي: المفهوم والأنواع وآليات الحماية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2017.
يُركّز على الأنواع المختلفة للتراث (مادي، غير مادي، طبيعي)، ويُبرز التحديات المؤسسية والتشريعية في مصر والعالم العربي.
4. حسن السائح – إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر، منشورات جامعة محمد الخامس، الرباط، 2010.
يتناول الجدل المفاهيمي حول التراث، وموقعه في الصراعات الهوياتية والرهانات السياسية.
5. يوسف عوض – التراث العمراني في العالم العربي: تصنيف وتثمين، دار الصفاء للنشر والتوزيع، عمان، 2013.
مرجع متخصص في التراث المعماري والمادي، مع تصنيفات واضحة ومعايير فنية وتقنية.
6. أحمد الجلبي – حماية التراث الثقافي بين التشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الأردن، 2015.
يعرض آليات الحماية القانونية للتراث المادي وغير المادي وفق المعايير الدولية والاتفاقيات مثل اتفاقية 2003 و1972.
7. مجموعة باحثين – المعهد الوطني للتراث (تونس) – تحديات صون التراث الثقافي في البلدان العربية، سلسلة ندوات، تونس، 2019.
كتاب جماعي يوثّق أعمال ندوة علمية تناولت التحديات التقنية والمؤسسية والاجتماعية في تصنيف وصون التراث العربي.
مواقع الكترونية
1.منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) – التراث الثقافي غير المادي
يوفر معلومات رسمية عن مفاهيم التراث غير المادي، قوائم التصنيف، والمعايير الدولية.
2.مركز التراث العالمي – اليونسكو
مرجع شامل للتراث الثقافي والطبيعي المدرج على قائمة التراث العالمي، بما يشمل التصنيفات، التحديات، وملفات الدول. https://whc.unesco.org/ar
3.المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) – التراث الثقافي
يعرض مشاريع حماية وتصنيف التراث الثقافي في العالم العربي.
alecso.org/nsite/ar/cultural-heritage
4.مركز دراسات الوحدة العربية – الأرشيف الرقمي لمجلة المستقبل العربي (فيه دراسات عن التراث الثقافي) منصة علمية تحوي مقالات معمّقة حول الثقافة والتراث العربي بمقاربات نقدية.
5.الهيئة العامة للآثار والتراث – العراق يضم معلومات وبيانات رسمية عن تصنيف وحماية المواقع الثقافية في العراق، ضمن الإطار الوطني والدولي. https://tourism.moch.gov.iq
6.الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني – السعودية (التراث الثقافي) توفر معلومات عن تصنيف وتسجيل التراث الثقافي غير المادي في السعودية، وفق منهجيات معتمدة. https://heritage.moc.gov.sa
7.المعهد الوطني للتراث – تونس موقع رسمي يعرض قواعد البيانات الوطنية للتراث، والمناهج المعتمدة في تصنيفه وتثمينه. http://www.inp.rnrt.tn
اترك تعليق جميل يظهر رقي صاحبه