📁 آخرالمقالات

بحث حول نشأة المتاحف وتطورها

نشأة المتاحف وتطورها

نشأة المتاحف وتطورها يمثلان رحلة طويلة عبر التاريخ، بدأت منذ العصور القديمة حيث كانت الحضارات مثل مصر والعراق واليونان وروما تجمع قطعا أثرية وفنية في خزائن خاصة للاحتفاظ بها وتكريمها. تطورت هذه الفكرة عبر العصور، وخصوصًا في العصور الوسطى وعصر النهضة من خلال خزائن العجائب التي كانت تجمع مقتنيات نادرة من الطبيعة والفنون.

بحث حول نشأة المتاحف وتطورها

مع بداية القرنين السابع عشر والثامن عشر، ظهرت المتاحف الحديثة في أوروبا، حيث أصبحت مؤسسات تهدف إلى التعليم والبحث العلمي، وبدأت تعرض مجموعاتها بشكل منظم للجمهور. في القرن التاسع عشر، توسعت المتاحف نتيجة الاكتشافات الأثرية والاستعمار، مما أثرى محتواها وزاد من تنوعها. أما في القرن العشرين والواحد والعشرين، فقد شهدت المتاحف تحولات كبيرة عبر إدخال التكنولوجيا الرقمية، مما جعلها أكثر تفاعلية وسهولة في الوصول، وأعاد تعريف دورها الثقافي والتربوي في المجتمع. بهذا الشكل، تعكس نشأة المتاحف وتطورها أهمية الحفاظ على التراث الإنساني ونقله للأجيال القادمة.

المبحث الأول: المفاهيم الأساسية

—> 1. تعريف المتحف اصطلاحيا

يعرف المتحف بأنه مؤسسة دائمة، غير ربحية، في خدمة المجتمع وتطوره، تقوم بجمع وحفظ ودراسة وعرض التراث المادي واللامادي للإنسان وبيئته، بهدف التعليم والتثقيف والترفيه.

وقد تبنّى المجلس الدولي للمتاحف (ICOM) هذا التعريف، مشددًا على أن المتحف ليس فقط مكانًا لحفظ الآثار أو عرضها، بل هو مركز معرفي وثقافي يهدف إلى بناء الوعي بالتاريخ والهوية.

يتفاوت تعريف المتحف بحسب الزاوية التي يُنظر منها إليه:

- فالمؤرخون يرونه خزانة لذاكرة الأمم.

- وعلماء الأنثروبولوجيا يرونه أداة لفهم تطور الإنسان.

- والتربويون يعدونه مؤسسة تعليمية غير رسمية.

- أما السياح والزوار فينظرون إليه كوجهة ترفيهية ذات بُعد ثقافي.

—> 2. وظائف المتحف ودوره الثقافي والتربوي

تعد المتاحف مؤسسات متعددة الوظائف، تؤدي أدوارًا أساسية في الحياة المعاصرة تتجاوز مجرد حفظ الآثار أو عرضها، إذ باتت أداة مركزية في تشكيل الوعي الجمعي، وتعزيز الهوية، ونقل المعرفة.

 أولًا: الوظائف الأساسية للمتحف

1. الحفظ (Conservation):

   تعنى المتاحف بحفظ الموروث الثقافي والمادي من الاندثار، سواء كان ذلك عبر أساليب الترميم الحديثة، أو عبر التحكم في الظروف البيئية المحيطة بالمقتنيات (مثل الحرارة والرطوبة والضوء).

2. الجمع (Collection):

   جمع المواد الأثرية أو الفنية أو العلمية وتوثيقها وتصنيفها وفق معايير علمية، لتشكيل رصيد معرفي يمكن دراسته واستغلاله في البحوث.

3. البحث العلمي (Research):

   تقوم المتاحف بإجراء دراسات علمية حول القطع الموجودة لديها، في مجالات كعلم الآثار، والتاريخ، والأنثروبولوجيا، والتاريخ الطبيعي، مما يجعلها مراكز بحث متخصصة.

4. العرض (Exhibition):

   وظيفة العرض تتيح للجمهور الاطلاع على المقتنيات من خلال تنظيم معارض دائمة أو مؤقتة، وتقديمها بأسلوب تربوي وتفاعلي يُراعي الفئات العمرية ومستوى التلقي.

5. التواصل والتثقيف (Communication and Education):

   تضع المتاحف برامج تعليمية تستهدف المدارس والجامعات والعائلات، وورش عمل، وجولات إرشادية، ومواد سمعية-بصرية، بما يُحول المتحف إلى مساحة تعليمية غير رسمية.

 ثانيًا: الدور الثقافي للمتحف

- حفظ الذاكرة الجماعية: يسهم المتحف في توثيق تاريخ الشعوب والحضارات، ويعرض للزوار سرديات بصرية عن الموروث الثقافي والوطني.

- تعزيز الهوية الثقافية: من خلال ربط الزائر بجذوره الثقافية والحضارية، يُعزز المتحف الشعور بالانتماء.

- تشجيع الحوار بين الثقافات: المتاحف العالمية والعابرة للحدود تتيح التعرف على حضارات أخرى، مما يروّج لقيم التعايش والتسامح والانفتاح.

 ثالثًا: الدور التربوي للمتحف

- التعليم خارج الفصل الدراسي: يعد المتحف من أبرز أدوات التعليم غير النظامي، حيث يُمكن للمتعلمين أن يستوعبوا المعلومات بطريقة تفاعلية ومرئية ومجسدة.

- تنمية المهارات المعرفية والتفكيرية: من خلال طرح الأسئلة وإثارة الفضول والاكتشاف، تُنمّي زيارة المتحف مهارات التحليل والاستنتاج والملاحظة.

- التحفيز على البحث العلمي: يشكّل المتحف بيئة مثالية لطلبة الجامعات والباحثين في مختلف التخصصات لاكتساب بيانات أصلية ومباشرة.

—> 3.أنواع المتاحف وتصنيفاتها

تتنوع المتاحف من حيث طبيعة مقتنياتها ووظائفها، وقد تطورت تصنيفاتها وفقاً للاتجاهات العلمية والثقافية التي تحكم المجتمعات. ويمكن تصنيف المتاحف وفق عدة معايير رئيسية تشمل المحتوى، والمكان، والجمهور المستهدف، والوظيفة.

 أولاً: تصنيف المتاحف حسب التخصص

1. المتاحف الأثرية

   تُعنى بعرض القطع والمخلفات الأثرية التي تمثل حضارات سابقة، مثل التماثيل، الأدوات، الكتابات القديمة، والعملات. ومن أمثلتها المتحف المصري في القاهرة.

2. المتاحف التاريخية

   تركز على توثيق الأحداث التاريخية، وتعرض مقتنيات مرتبطة بشخصيات تاريخية، أو فترات زمنية محددة، مثل المتاحف العسكرية أو متاحف الثورة.

3. المتاحف الفنية

   تتخصص في عرض الأعمال الفنية كالرسم، والنحت، والفنون التشكيلية، وغالباً ما تحتوي على لوحات شهيرة وتحف نادرة، مثل متحف اللوفر في باريس.

4. المتاحف العلمية والتقنية

   تهتم بتطور العلوم والتكنولوجيا، وتعرض نماذج لتجارب علمية واختراعات، مثل متحف العلوم في لندن.

5. المتاحف الطبيعية

   تضم مجموعات عن الكائنات الحية، والصخور، والمعادن، والحفريات، وتعمل على توثيق التنوع البيولوجي والجيولوجي.

6. المتاحف الإثنولوجية (الأنثروبولوجية)

   تختص بعرض الثقافات البشرية المتنوعة، وعادات الشعوب وتقاليدهم، وأشكال حياتهم الاجتماعية والاقتصادية.

7. المتاحف المتخصصة

   وهي متاحف تركز على موضوع محدد بدقة، مثل متاحف الموسيقى، أو متاحف الطيران، أو متاحف البريد.

 ثانياً: تصنيف المتاحف حسب الموقع

- المتاحف الوطنية: تمثل التراث الوطني وتديره الدولة.

- المتاحف الإقليمية: تركز على تراث منطقة معينة داخل الدولة.

- المتاحف المحلية: تخدم مجتمعاً محلياً محدداً.

- المتاحف المفتوحة أو في الهواء الطلق: تُعرض فيها المقتنيات في بيئتها الطبيعية أو ضمن فضاء معماري مفتوح.

 ثالثاً: تصنيف المتاحف حسب طبيعة الجمهور

- متاحف موجهة للأطفال

  تقدم المعلومة بأسلوب تفاعلي مبسط يناسب الفئات العمرية الصغيرة.

- متاحف تعليمية

  تخدم أغراض البحث والتعلم وتكون مرتبطة بالمؤسسات التعليمية.

- متاحف سياحية وترفيهية

  تستهدف السياح وتقدم معروضاتها بأساليب جذابة وحديثة.

إن هذا التعدد في أنواع المتاحف يعكس تنوع الأهداف والاهتمامات في المجتمعات الحديثة، ويؤكد أن المتحف لم يعد مجرد خزانة للعرض، بل مؤسسة تفاعلية متعددة الأبعاد.

المبحث الثاني: نشأة المتاحف وتطورها 

 —> 1.جذور المتاحف في الحضارات القديمة

ترجع أصول المتاحف إلى العصور القديمة، حيث ظهرت بوادر حفظ المقتنيات وعرضها لأهداف دينية أو تعليمية أو احتفالية في عدد من الحضارات الكبرى. وعلى الرغم من أن فكرة "المتحف" كمؤسسة مستقلة لم تكن معروفة آنذاك، إلا أن ممارسات مشابهة تمثل الجذور الأولى لهذا المفهوم.

 أولاً: الحضارة المصرية القديمة

امتلكت مصر القديمة واحداً من أقدم أشكال حفظ المقتنيات، إذ كان الفراعنة يحرصون على تخزين التماثيل والنقوش والكنوز داخل المقابر والمعابد. كانت هذه المقتنيات تُحفظ بعناية وتُصمّم لتدوم، باعتبارها وسائل لضمان الخلود والاتصال بالعالم الآخر. كما عُثر في بعض المعابد والمقابر الملكية على قاعات مملوءة بالأدوات والرموز الدينية، مما يُعدّ شكلاً أوليًا لما يشبه العرض المنظم.

 ثانياً: حضارة وادي الرافدين (العراق القديم)

في العراق القديم، وبخاصة في بابل وآشور، عُرفت المكتبات الملكية التي ضمّت الألواح الطينية والنصوص الدينية والعلمية، مثل مكتبة آشور بانيبال في نينوى. ومن أبرز الأدلة على فكرة المتحف في هذه الحضارة، ما اكتشفته العالمة البريطانية -ليونارد وولي- في مدينة أور، حيث وُجدت مجموعة من المقتنيات مرتبة ومصنفة في عهد الأميرة -إنّي-غالدي-نانا- تعود إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد، وهي تعتبر أول نموذج معروف لما يمكن تسميته "متحفًا أثريًا" بدائيًا.

 ثالثاً: الحضارة اليونانية القديمة

ظهر مفهوم -الموسيون- (Mouseion) في اليونان، وهو مكان مكرّس للفنون والعلم والفلسفة. من أبرز الأمثلة على ذلك -موسيون الإسكندرية-، الذي جمع بين مكتبة ضخمة وحدائق وأماكن لتجميع التحف والدراسات العلمية. لم تكن وظيفة هذا المكان حفظ الآثار فقط، بل كان مركزاً للبحث والتعليم، وهو ما يُقارب مفهوم المتحف الأكاديمي الحديث.

 رابعاً: الحضارة الرومانية

ورث الرومان الكثير من تقاليد الإغريق في مجالات الفنون والعمارة، واهتموا بجمع التماثيل والمخطوطات والتحف المنهوبة من المستعمرات. كان الأثرياء الرومان يعرضون مقتنياتهم الفنية داخل منازلهم الفخمة، فيما وُجدت بعض المعابد والقصور التي خُصصت لعرض التماثيل واللوحات. وعلى الرغم من أن هذه المعروضات لم تكن متاحة للعامة، إلا أنها تمثل مرحلة متقدمة من فكرة "العرض الموجه".

يتضح أن جذور المتحف تمتد عميقا في التاريخ الإنساني، وقد ارتبطت منذ بداياتها بوظائف دينية، فكرية، وسياسية. هذه الجذور ساهمت لاحقاً في بلورة النموذج الأوروبي الحديث للمتحف في العصور الحديثة.

—> 2.خزائن العجائب في العصور الوسطى وعصر النهضة

تعد خزائن العجائب أو ما يعرف باللاتينية بـ -"Wunderkammern"-، ظاهرة ثقافية شكلت حلقة الوصل بين المفهوم البدائي لحفظ المقتنيات في العصور القديمة، وبداية تشكل المتاحف الحديثة في أوروبا. وقد ظهرت هذه الخزائن بشكل لافت خلال أواخر العصور الوسطى وبلغت ذروتها في عصر النهضة، وكانت تعكس روح الاكتشاف، والفضول العلمي، والانبهار بعجائب الطبيعة والصناعة البشرية.

 أولاً: النشأة والخصائص

خزائن العجائب لم تكن مؤسسات عامة، بل غرفًا خاصة أو صالات فاخرة في قصور النبلاء والعلماء والتجار الأثرياء. كانت تُجمع فيها أغرب وأندر المقتنيات التي تمثل تنوع العالم، من دون تصنيف علمي دقيق. وقد احتوت هذه الخزائن على:

- حيوانات محنطة نادرة أو مشوهة.

- معادن وأحجار كريمة غريبة.

- أدوات فلكية وطبية قديمة.

- أعشاب نادرة.

- قطع فنية أو أثرية من الشرق أو العالم الجديد.

- آلات ميكانيكية صغيرة.

كانت الغاية من هذه الخزائن إثارة الدهشة وإبراز قدرة صاحبها على السفر والمعرفة والتملك، كما أنها مثّلت نوعًا من "العرض" الشخصي للثروة والثقافة.

 ثانيًا: الخلفية الفكرية والثقافية

ظهر هذا التقليد في سياق فكري اتسم بالبحث عن النظام في العالم من خلال "تصنيف عجائبه"، وهو ما انسجم مع روح عصر النهضة الذي جمع بين الاهتمام بالعلوم الطبيعية، والفنون، والتاريخ القديم. اعتقد أصحاب هذه الخزائن أن جمع كل أشكال العجائب الطبيعية والبشرية يعكس "العالم المصغّر" داخل غرفة واحدة، وهو ما أطلق عليه تعبير -microcosm-.

 ثالثًا: الدور في تطور المتحف

رغم طابعها الشخصي وغير المنهجي، مهدت خزائن العجائب لتطور فكرة المتحف كمؤسسة، وذلك من خلال:

- تشجيع التصنيف العلمي: إذ بدأ بعض العلماء بتنظيم المجموعات وفق مبادئ علمية (كالأنواع، والأجناس).

- إتاحة المعروضات للزوار المحدودين: مما أسهم في ظهور فكرة العرض العام.

- نقل المجموعات إلى مؤسسات عامة لاحقًا: إذ تحولت كثير من خزائن العجائب إلى نواة متاحف كبرى مثل متحف التاريخ الطبيعي في لندن.

وبهذا يمكن القول إن خزائن العجائب كانت مرحلة انتقالية فريدة بين فكر القرون الوسطى المتعلق بالخرافة والرمزية، وبين فكر الحداثة الذي أسس للعلم والتنظيم. إنها تمثل ذاكرة عصر انفتاح فكري واجتماعي قبل نشوء المؤسسات المتحفية الرسمية.

—> 3.بدايات المتاحف الحديثة في أوروبا (القرنين 17 و18)

شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر تحولات عميقة في الفكر الأوروبي، انعكست على مختلف ميادين الحياة، ومنها تطور مفهوم المتحف من فضاء خاص للنخبة إلى مؤسسة عامة تُعنى بالحفظ والعرض والتعليم. وقد شكل هذا التحول ولادة المتحف بالمعنى الحديث، مرتبطًا بالنهضة العلمية، وتوسع الدولة، وروح التنوير.

 أولاً: من الخزائن الخاصة إلى المؤسسات العامة

مع توسع الدول الأوروبية وظهور الطبقات البورجوازية المتعلمة، بدأت العديد من خزائن العجائب الخاصة بالتحول إلى مؤسسات رسمية. لم تعد المجموعات الغريبة حكرًا على البلاط أو الأثرياء، بل ظهرت دعوات قوية لتقنين عملية العرض وتنظيم المجموعات ضمن قاعات مفتوحة للجمهور.

 ثانيًا: المتاحف كمؤسسات تعليمية

بدأت المتاحف تنظر إليها كمراكز تعليمية وثقافية، مرتبطة بالجامعات أو المؤسسات العلمية. ساهمت روح -عصر التنوير- في ترسيخ فكرة أن العلم يجب أن يكون في متناول الجميع، وأن المجموعات الطبيعية والتاريخية يجب أن تخدم المعرفة العامة وليس فقط الزينة أو التفاخر.

 ثالثًا: أبرز النماذج المبكرة للمتاحف الحديثة

1. متحف أشموليان (Ashmolean Museum) في أكسفورد (1683)

   يعد أول متحف جامعي حديث في العالم، وقد تم تأسيسه بناءً على مجموعة إلياس أشمول، التي ضمت قطعًا أثرية وطبيعية وفنية. مثّل نموذجًا علميًا بامتياز، حيث تم تصنيف المقتنيات وتنظيمها بطريقة تعليمية ومنهجية.

2. متحف الفاتيكان في روما

   رغم أن جذوره تعود إلى القرون الوسطى، إلا أنه بدأ يأخذ شكل المتحف العام خلال القرنين 17 و18، من خلال تنظيم مجموعاته الفنية والدينية وفتحها تدريجيًا أمام الباحثين والزوار.

3. متحف التاريخ الطبيعي في باريس (Muséum National d’Histoire Naturelle)

   تأسس رسميًا سنة 1793، لكنه يعود إلى الحديقة الملكية للنباتات التي أنشئت عام 1635. وقد لعب دورًا مهمًا في دعم علم التصنيف البيولوجي والجيولوجي.

4. اللوفر في باريس (1793)

   يُعد من أهم الأمثلة على تحول القصور الملكية إلى متاحف عامة. بعد الثورة الفرنسية، تحول قصر اللوفر إلى متحف وطني لعرض الفن، وجُعل مفتوحًا أمام الجمهور، مما شكل تحولًا جذريًا في علاقة المجتمع بالمقتنيات الفنية.

 رابعًا: التأثيرات السياسية والاجتماعية

ساهمت الأحداث السياسية الكبرى، مثل الثورة الفرنسية، في فتح أبواب المتاحف أمام الناس باسم “الشعب”، باعتبار الفن والتراث ملكًا عامًا. كما ساعد التوسع الاستعماري الأوروبي على تدفق كم هائل من القطع الأثرية من المستعمرات، والتي وُضعت في المتاحف الأوروبية لتُمثل "العالم" في عواصم الغرب.

لقد مهّد هذان القرنان الطريق لتأسيس المتحف كمؤسسة ثقافية عامة تهدف إلى التعليم والتوثيق والحفاظ على التراث، وهو المفهوم الذي سيُكرس لاحقًا في القرن التاسع عشر مع ظهور المتاحف الوطنية الكبرى.

المبحث الثالث: تطور المتاحف عبر العصور

—> 1.المتاحف في القرن التاسع عشر وعلاقتها بالاستعمار والاكتشافات الأثرية

يشكل القرن التاسع عشر مرحلة مفصلية في تاريخ المتاحف، إذ شهد تطورًا نوعيًا وكميًا في عدد المتاحف ووظائفها وتوجهاتها، متأثرًا بعوامل عديدة أبرزها التوسع الاستعماري الأوروبي، والاهتمام المتزايد بالآثار، والانفجار المعرفي الناتج عن الثورة الصناعية. وقد ارتبطت هذه المرحلة بثلاث ظواهر كبرى: الاستعمار، والتنقيب الأثري، وبناء الهوية الوطنية.

 أولًا: المتاحف كمنتج مباشر للتوسع الاستعماري

مع اتساع رقعة الإمبراطوريات الأوروبية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، أصبحت المتاحف بمثابة "مخازن عالمية" تنقل إليها الآثار والكنوز التي تم الاستحواذ عليها من المستعمرات. كانت هذه المقتنيات تُعرض في المتاحف الأوروبية لإبراز التفوق الحضاري المزعوم للدول المستعمِرة، ولتعزيز النزعة الإمبريالية أمام الجمهور المحلي.

- المتحف البريطاني في لندن (British Museum)، الذي تأسس في 1753، توسّع بشكل كبير في القرن 19 ليضم قطعًا أثرية من مصر، العراق، الهند، واليونان.

- متحف اللوفر في باريس، استفاد من حملات نابليون في مصر والشرق الأدنى، وأصبح مركزا لعرض مكتسبات البعثات الاستكشافية والعسكرية.

 ثانيًا: الاكتشافات الأثرية وتوسع مفهوم المتحف

شهد القرن التاسع عشر ازدهارًا في علم الآثار والتنقيب، خاصة في مناطق الشرق الأدنى وشمال إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، وهو ما أدى إلى تدفق هائل للقطع الأثرية نحو أوروبا. ومن أشهر هذه الاكتشافات:

- فك رموز اللغة الهيروغليفية بفضل حجر رشيد (Rosetta Stone) عام 1822.

- اكتشافات العراق القديم (نينوى، بابل) على يد بعثات بريطانية وفرنسية.

- اهتمام متزايد بآثار اليونان وروما القديمة.

أسهمت هذه الاكتشافات في تحويل المتاحف إلى مراكز بحث علمي وعرض تاريخي، وأدخلت مفاهيم جديدة مثل "المعارض المؤقتة"، و"المجموعات المتخصصة"، و"العرض المتحفي المؤرخ".

 ثالثًا: المتاحف وبناء الهوية القومية

في ظل تنامي الدول القومية في أوروبا، أصبحت المتاحف وسيلة لبناء رواية وطنية تمجّد التاريخ القومي وتُظهر استمرارية الدولة الحديثة مع ماضيها المجيد. ولهذا السبب، أنشئت متاحف وطنية مثل:

- متحف برلين الجديد (Neues Museum)، الذي صُمّم ليُظهر وحدة الثقافة الألمانية من خلال عرض التراث الإغريقي والمصري.

- متحف الفنون الجميلة في بودابست، الذي جمع مقتنيات تعكس الهوية الثقافية المجرية في إطار أوروبي.

 رابعًا: نقد الاستعمار الثقافي ودور المتحف

رغم ازدهار المتاحف في هذا العصر، بدأت بوادر النقد تظهر نهاية القرن 19، لا سيما في الأوساط الأكاديمية، التي رأت أن هذه المتاحف تشكّل شكلا من الاستعمار الثقافي، إذ تعرّض التراث الإنساني للنهب والعرض خارج سياقه الجغرافي والثقافي.

ختامًا، فإن القرن التاسع عشر شهد ولادة المتحف الإمبراطوري والعلمي في آن واحد، حيث تداخلت المعرفة بالقوة، والاكتشاف بالاستحواذ، والمعروضات بالهيمنة الثقافية. وقد أثّرت هذه المرحلة بشكل كبير في التكوين المعرفي والسياسي للمؤسسات المتحفية في العالم المعاصر.

—> 2. المتاحف في القرن العشرين: من العرض إلى التفاعل

شهد القرن العشرون تحوّلًا جذريًا في فلسفة المتحف ووظائفه، منتقلاً من كونه مجرد فضاء للعرض الساكن والتحفيظ، إلى مؤسسة تفاعلية تشاركية ذات بعد اجتماعي وتعليمي وثقافي عميق. وقد جاء هذا التحوّل نتيجة تطورات معرفية وتكنولوجية وسياسية أثّرت في وظيفة المتحف ومكانته في المجتمع.

 أولًا: تحوّل في مفهوم الجمهور

في بداية القرن العشرين، كان المتحف ما يزال يعتمد نموذج "المُعرِض الخبير" و"الزائر المتلقي السلبي". لكن مع تطور الفكر التربوي والنظريات النفسية والاجتماعية، بدأ ينظر إلى الجمهور على أنه شريك في عملية التعلم والمعرفة. وهكذا، نشأت حركة جديدة تطالب بـ:

- جعل المتاحف أكثر شمولًا من حيث اللغة والمحتوى.

- إدراج وسائل توضيحية، ولوحات تفسيرية، ونماذج ثلاثية الأبعاد.

- فتح الأبواب للزوار من مختلف الطبقات الاجتماعية، وليس فقط للنخب.

 ثانيًا: المتحف كأداة تعليمية وتربوية

منذ منتصف القرن العشرين، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح للمتحف دور متنامٍ في التربية والتعليم. بدأت المتاحف تقدم برامج تعليمية موجّهة للطلبة، وورشات عمل، ومحاضرات، وألعاب تعليمية، خاصة في متاحف العلوم والتاريخ الطبيعي.

ظهر ما يعرف بـ "المتاحف التعليمية"، مثل:

- متحف العلوم في لندن (Science Museum).

- متحف الأطفال في بوسطن.

- متاحف الهواء الطلق في الدول الإسكندنافية، التي تقدم عروضًا حية للتقاليد والحرف القديمة.

 ثالثًا: التفاعل والتكنولوجيا

مع تطور الوسائط المتعددة في النصف الثاني من القرن العشرين، بدأت المتاحف تُدخل وسائل عرض تفاعلية، مثل:

- الشاشات الرقمية.

- محاكاة الواقع (Simulations).

- التجارب الحسية (الصوت، الضوء، الحركة).

- أجهزة الإرشاد الصوتي المتعددة اللغات.

هذا التوجّه أسهم في إضفاء طابع شخصي وتفاعلي على الزيارة المتحفية، وجعل التجربة أكثر جذبًا وإثراءً.

 رابعًا: تحوّل المتاحف إلى فضاءات اجتماعية

في أواخر القرن العشرين، تعزز دور المتاحف كمراكز مجتمعية. أصبحت تستضيف ندوات، معارض مؤقتة، عروضًا موسيقية، مناسبات ثقافية، وتفاعلات حوارية بين الثقافات. تمّ التركيز على تعزيز الهوية المحلية، واحترام التنوع الثقافي، والانخراط في قضايا العدالة الاجتماعية والبيئة.

كما ظهرت مفاهيم حديثة مثل:

- المتحف الإيكولوجي (Ecomuseum): وهو متحف يربط الإنسان بمحيطه البيئي والتاريخي.

- المتحف المجتمعي (Community Museum): وهو متحف يُدار بالتعاون مع المجتمعات المحلية لعرض تراثهم وتجاربهم.

 خامسًا: نقد النموذج الكلاسيكي وإعادة التأطير

مع تنامي الحركات النقدية، بدأ المختصون والمتابعون يتحدثون عن "تفكيك المتحف الكلاسيكي"، والدعوة إلى:

- إرجاع القطع المنهوبة إلى بلدانها الأصلية.

- تمثيل الشعوب المهمّشة في السرد المتحفي.

- إزالة أو إعادة تأويل المعروضات التي تمجّد الاستعمار أو تُقصي الآخر.

ختامًا، فإن القرن العشرين نقل المتحف من منطق الصندوق الزجاجي المغلق إلى فضاء تفاعلي مفتوح، يجمع بين العلم والتجربة، وبين الهوية والانفتاح، وبين العرض والمشاركة. وبذلك أصبح المتحف مؤسسة فاعلة في تشكيل الوعي الجمعي، لا مجرد مكان لحفظ الماضي.

—> 3.التحولات الرقمية في المتاحف في القرن الحادي والعشرين

دخلت المتاحف في القرن الحادي والعشرين عصرًا جديدًا تحكمه التحولات الرقمية المتسارعة، حيث باتت التكنولوجيا الرقمية عنصرًا أساسيًا في إعادة تعريف دور المتحف ووظائفه وتواصله مع الجمهور. فقد أثرت الرقمنة على كل جوانب العمل المتحفي، من الحفظ والتوثيق إلى العرض والتفاعل والتعليم، لتتحول المتاحف من مؤسسات مادية جامدة إلى كيانات ديناميكية مرنة تعبر الحدود الجغرافية والزمنية.

 أولًا: الرقمنة وحفظ المجموعات

بدأت المتاحف في استخدام تكنولوجيا الرقمنة لحماية مجموعاتها وتوثيقها بطريقة علمية دقيقة. فبات من الممكن:

- إنشاء قواعد بيانات رقمية تحتوي على صور عالية الدقة ووصف مفصل لكل قطعة.

- تسهيل الوصول إلى المعلومات للباحثين عبر الإنترنت.

- ضمان حماية التراث من الكوارث أو الحروب عبر النسخ الرقمية الاحتياطية.

مثال ذلك مشروع "ديجيتال ليبراري يوروبيا" (Europeana) الذي تشارك فيه مئات المتاحف والمكتبات الأوروبية لتوفير تراث مشترك رقميًا.

 ثانيًا: العروض التفاعلية والمعززة

مع تطور تقنيات الواقع المعزز (AR) والواقع الافتراضي (VR) وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، أصبح الزائر جزءًا من التجربة المتحفية وليس مجرد متفرج. ومن أبرز أشكال هذا التحول:

- استخدام نظارات الواقع الافتراضي لاستكشاف مواقع أثرية مغمورة أو مدمرة.

- محاكاة الحياة في العصور القديمة عبر عروض ثلاثية الأبعاد.

- توظيف الشاشات التفاعلية والأجهزة اللوحية داخل صالات العرض.

وقد أصبحت هذه الوسائل وسيلة تعليمية مشوّقة، خاصة لجمهور الأطفال واليافعين.

 ثالثًا: المتاحف الافتراضية والزيارات عن بعد

أتاح الإنترنت للمتاحف فرصة غير مسبوقة للوصول إلى جمهور عالمي من خلال:

- إنشاء متاحف افتراضية كاملة (Virtual Museums) يمكن زيارتها من أي مكان.

- تنظيم جولات رقمية ثلاثية الأبعاد عبر مواقع إلكترونية وتطبيقات ذكية.

- بث المحاضرات والفعاليات الثقافية مباشرة على المنصات الرقمية.

وقد تسارعت هذه التحولات بشكل خاص خلال جائحة كورونا، حين اضطرت المتاحف إلى الإغلاق، فوجدت في العالم الرقمي بديلاً فعالاً للحفاظ على تواصلها مع جمهورها.

 رابعًا: المشاركة الرقمية والمجتمع التشاركي

لم تعد المتاحف تعتمد فقط على الخبراء، بل باتت تشرك الجمهور في عمليات التوثيق والعرض والتفسير، من خلال:

- المشاريع الجماعية (Crowdsourcing) التي يدلي فيها الزوار بمعلومات حول الصور أو الوثائق.

- حملات تفاعلية على وسائل التواصل الاجتماعي.

- تطوير تطبيقات تتيح للزوار تصميم معارض افتراضية بأنفسهم.

هذا الاتجاه يعكس صعود ما يُعرف بـ "المتحف التشاركي"، حيث يصبح الجمهور جزءًا فاعلًا في إنتاج المعرفة المتحفية.

 خامسًا: التحديات الأخلاقية والتقنية

رغم مزايا الرقمنة، فإنها تطرح تحديات هامة، منها:

- حماية حقوق الملكية الفكرية للمحتوى الرقمي.

- ضمان أمن البيانات ومنع التلاعب بها.

- عدم استبعاد الفئات غير القادرة على استخدام التكنولوجيا.

كما يُطرح سؤال مهم حول ما إذا كانت التجربة الرقمية يمكن أن تعوّض عن المعايشة الحسية المباشرة للقطع الأصلية، أم أنها مجرد مكمل لها.

ختامًا، فإن التحول الرقمي لم يعد مجرد خيار أمام المتاحف، بل ضرورة استراتيجية تُمكّنها من البقاء فاعلة وجاذبة في عالم متغير. وبذلك، تتحول المتاحف في القرن الحادي والعشرين إلى فضاءات معرفية ذكية، تُعيد ربط الإنسان بالتراث من خلال وسيط رقمي تفاعلي متطور.

الخاتمة

تعد المتاحف اليوم من أبرز المؤسسات الثقافية التي تعكس مسيرة الإنسان في جمع المعرفة وحفظ التراث ونقل التجارب عبر الأجيال، ويبرز من خلال نشأة المتاحف وتطورها كيف تطورت هذه المؤسسات من مجرد خزائن تجمع القطع الثمينة والآثار في الحضارات القديمة إلى مؤسسات ثقافية تعليمية وبحثية. خلال العصور الوسطى وعصر النهضة، شهدت المتاحف تطورًا في مفهوم التجميع والعرض، لتصل إلى المتاحف الحديثة في القرنين السابع عشر والثامن عشر التي أنشئت بهدف البحث العلمي والتعليم، حيث أصبحت مرآة تعكس تطور المجتمعات البشرية وتنوع ثقافاتها.

أما في القرن التاسع عشر، فقد ارتبطت نشأة المتاحف وتطورها بشكل وثيق بالاستعمار والاكتشافات الأثرية، إذ توسعت مجموعاتها عبر نقل القطع من مناطق متعددة حول العالم، ما جعلها مراكز لتوثيق الحضارات ومصادر لإبراز الهوية الوطنية، رغم ما صاحبه ذلك من جدل حول الاستعمار الثقافي وحقوق الشعوب في تراثها.

في القرن العشرين، شهدت المتاحف تحولات جذرية من حيث وظيفة العرض إلى التفاعل، حيث أصبحت تقدم تجارب تعليمية وتربوية تفاعلية تلبي احتياجات جمهور أوسع، واستثمرت في التكنولوجيا الحديثة لخلق فضاءات تواصل أكثر حيوية وشمولية، مع التركيز على دور المتحف كمركز اجتماعي يعزز الهوية الثقافية ويحفز الحوار بين الثقافات. كما أن نشأة المتاحف وتطورها في القرن الحادي والعشرين اتسمت بالرقمنة والتقنيات الرقمية التي أصبحت حجر الزاوية في تطويرها، مما سمح لها بتقديم تجارب رقمية تفاعلية وتوسيع نطاق وصولها عالميا عبر المتاحف الافتراضية، مع إشراك الجمهور في إنتاج المعرفة المتحفية.

في الختام، فإن المتحف ليس مجرد مكان لتخزين القطع الفنية أو الأثرية، بل هو فضاء حي يتطور باستمرار، يعكس تطور الفكر الإنساني ومجتمعاته، ويلعب دورًا محوريًا في بناء الهوية ونشر الثقافة وتعزيز التفاهم بين الشعوب، ما يؤكد أهمية نشأة المتاحف وتطورها كجسور تربط بين الماضي والحاضر وتشكل رؤية واضحة للمستقبل.

قائمة المراجع 

1. المتاحف: نشأتها وتطورها وأدوارها الحديثة

   د. محمد عبد القادر علي، دار النهضة العربية، القاهرة، 2010.

2. تاريخ المتاحف ودورها الثقافي

   د. نادية إبراهيم حسن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015.

3. المتحف بين الماضي والحاضر: دراسة في نشأة المتاحف وتطورها

   د. عبد الرحمن عبد الله، دار الفكر العربي، بيروت، 2012.

4. المتاحف: المفهوم، الأنواع، والوظائف

   د. سامي أحمد خليل، مكتبة القاهرة، 2017.

5. دور المتحف في الحفاظ على التراث الثقافي

   د. فاطمة الزهراء الشريف، الجامعة الأردنية، 2018.

6. المتاحف الرقمية ومستقبل حفظ التراث

   د. خالد عبد الله المصري، دار النشر الجامعي، الرياض، 2020.

7. التراث الثقافي والمتاحف: رؤية معاصرة

   د. علي حسن محمود، دار الثقافة للنشر، 2016.

مواقع الكرتونية  

1.موقع وزارة الثقافة المصرية

 يحتوي على معلومات موثقة حول المتاحف المصرية وتاريخها وأنشطتها  http://www.moc.gov.eg

2.المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

 يقدم دراسات ومقالات ثقافية وعلمية حول التراث والمتاحف في العالم العربي  https://www.dohainstitute.org

3.موقع المكتبة الرقمية العالمية (النسخة العربية)

 يعرض مواد رقمية وتراثية متعلقة بالمتاحف والآثار العالمية والعربية  https://www.wdl.org/ar/

4.المجلس الدولي للمتاحف (ICOM) - القسم العربي

 يقدّم تحديثات ومقالات عن دور المتاحف في الوطن العربي والعالم

 https://icom.museum/ar

5.موقع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني السعودي

 يضم معلومات عن المتاحف السعودية وتاريخها ودورها في الحفاظ على التراث  https://scth.gov.sa

تعليقات