الثقافة السياسية في العالم العربي
تشكل الثقافة السياسية في العالم العربي انعكاسا لتاريخ طويل من التقاليد الاجتماعية والسياسية والدينية، وهي تتأرجح بين نمط تقليدي قائم على الطاعة والانتماء العصبوي، وبين توجهات حديثة تسعى لترسيخ قيم المواطنة والمشاركة السياسية. ففي معظم دول المنطقة، لا تزال العلاقات السياسية متأثرة ببنية اجتماعية قبلية أو طائفية، تعزز الولاء الشخصي وتهمش المؤسسات الحديثة، مما يضعف من دور المواطن كمشارك فاعل في الشأن العام.
من جهة اخرى، ساهمت التحولات الاقتصادية والاجتماعية ووسائل الاعلام الرقمية في بروز جيل جديد أكثر انفتاحا على مفاهيم الحرية والمساءلة وحقوق الانسان. ومع ذلك، فإن هذا الوعي السياسي الحديث يصطدم بعوائق بنيوية، مثل الأنظمة السلطوية، وضعف مؤسسات المجتمع المدني، ونقص التعليم السياسي.
الثقافة السياسية في العالم العربي تواجه اليوم مفترق طرق: إما أن تواصل إعادة إنتاج نمطها التقليدي، أو تنفتح على امكانيات التغيير والتحديث من خلال دعم التعليم الحر، وتوسيع المجال المدني، وتشجيع المشاركة المجتمعية. ولا يمكن لهذا التحول أن ينجح دون إصلاح شامل يربط بين تحديث البنى السياسية، وتغيير الوعي الجماعي، وبناء ثقافة تؤمن بأن المواطن شريك لا تابع.
1. جذور الثقافة السياسية التقليدية
تعود جذور الثقافة السياسية التقليدية في العالم العربي إلى سياقات تاريخية واجتماعية ممتدة، حيث تشكلت تحت تأثير أنظمة حكم سلطوية، وهياكل اجتماعية قبلية، وتقاليد دينية واجتماعية محافظة. كانت العلاقات السياسية في المجتمعات التقليدية تعتمد في الغالب على الولاء الشخصي للرئيس أو الزعيم أو شيخ القبيلة، أكثر من اعتمادها على مفاهيم مؤسسية حديثة كالشرعية الدستورية أو الحقوق السياسية.
برزت هذه الثقافة في ظل غياب مؤسسات سياسية مستقلة وقواعد قانونية ملزمة، فكانت السلطة تورث أو تفرض بالقوة، ويُنظر إلى الدولة بوصفها ملكاً للحاكم لا ملكاً عاماً للأمة. وهذا ما أدى إلى رسوخ مفاهيم الطاعة والخضوع، وضعف ثقافة المشاركة، وانتشار اللامبالاة السياسية لدى قطاعات واسعة من السكان.
كما لعب الدين، بصفته مكونا رئيسياً للهوية، دورا مزدوجا في تكوين هذه الثقافة: ففي بعض الحالات كان يُستخدم لتبرير الطاعة المطلقة للحاكم، فيما استُخدم أحياناً لرفض أي شكل من أشكال الحداثة السياسية باعتبارها "وافدة" من الغرب. ومع غياب وسائل الإعلام المستقلة والتعليم التعددي، بقيت الثقافة السياسية حبيسة نماذج سلطوية تقليدية أعاقت تطور وعي سياسي حديث.
إن فهم جذور الثقافة السياسية التقليدية لا يعني إنكار تطور الوعي السياسي لاحقاً، بل يسلط الضوء على الإرث الذي لا يزال يؤثر في الحاضر، ويشكّل تحدياً لأي محاولة إصلاح سياسي أو اجتماعي.
2. مظاهر الحداثة السياسية في المجتمعات العربية
شهدت المجتمعات العربية منذ منتصف القرن العشرين محاولات متعددة لتحديث نظمها السياسية، سواء بعد الاستقلال عن الاستعمار أو عبر إصلاحات داخلية قادتها النخب الحاكمة. وقد تجلّت مظاهر هذا التحديث في عدة مسارات شكلت ملامح الحداثة السياسية، لكن غالبًا ما بقيت هذه المظاهر سطحية أو غير مكتملة.
أولى هذه المظاهر تمثلت في إنشاء دساتير مكتوبة ونظم قانونية تنظم العلاقة بين السلطة والمواطن. ورغم الطابع المتقدم لبعض هذه النصوص، إلا أن التطبيق العملي لها كثيرًا ما خضع لاعتبارات سلطوية، ما حدّ من فاعليتها في ترسيخ ثقافة المشاركة والمساءلة.
كما تأسست في العديد من الدول العربية برلمانات وأحزاب سياسية، لكن في كثير من الأحيان بقيت هذه المؤسسات إما شكلية، أو محصورة في نخب ضيقة، أو تابعة للسلطة التنفيذية، مما حدّ من دورها كمؤسسات رقابية وتمثيلية حقيقية.
كذلك ظهرت وسائل إعلام حديثة، وجرت انتخابات عامة، وتم تبني خطابات سياسية تعلن الالتزام بالمواطنة وحقوق الإنسان، غير أن هذه التحولات لم تُواكبها تغييرات جوهرية في الثقافة السياسية السائدة، والتي ظلت مشبعة بثقافة الطاعة والارتياب من السياسة والانخراط في الشأن العام.
إلى جانب ذلك، لعبت النخب المثقفة، وقطاعات من الشباب، دورًا متناميًا في نشر قيم التعددية، وحرية التعبير، والمطالبة بالإصلاح السياسي، خاصة في ظل التوسع التكنولوجي وتوفر المعلومات. إلا أن مظاهر الحداثة هذه اصطدمت بواقع سياسي واجتماعي مقاوم للتغيير، مما خلق تناقضًا مستمرًا بين الممارسة السياسية الفعلية والطموحات الفكرية والقيم الحديثة.
إن مظاهر الحداثة السياسية في المجتمعات العربية لا تزال محدودة بغياب بيئة حاضنة تؤمن بالتعدد والمساءلة والمواطنة، وهو ما يستدعي إصلاحًا بنيويًا لا يقتصر على البنى القانونية، بل يشمل أيضًا الثقافة السياسية والتعليم والمجتمع المدني.
3. التناقض بين البنية القانونية والثقافة المجتمعية
يشكل التناقض بين البنية القانونية الرسمية والثقافة المجتمعية احد ابرز التحديات التي تواجه تحديث الحياة السياسية في العالم العربي. فالكثير من الدول العربية تبنت دساتير متقدمة وقوانين حديثة تنص على مبادئ مثل المواطنة والمساواة وحرية التعبير والمشاركة السياسية، الا ان هذه النصوص غالبا ما تبقى بعيدة عن التطبيق العملي بسبب ضعف الثقافة السياسية لدى الافراد والمؤسسات.
في المجتمعات التي تسود فيها ثقافة تقليدية قائمة على الولاء الشخصي والانتماء القبلي والطاعة للسلطة، يكون من الصعب تفعيل مبادئ المشاركة والمساءلة، حتى وان كانت هذه المبادئ منصوصا عليها قانونا. فالمواطن لا يشعر ان له دورا حقيقيا في صناعة القرار، ويميل الى الابتعاد عن الشأن العام، او قبول الاوامر دون اعتراض، مما يفرغ المؤسسات من محتواها الديمقراطي.
كما ان العلاقة بين المواطن والدولة في هذه السياقات تتسم بالريبة او اللامبالاة، وتغيب عنها الثقة المتبادلة، مما يحد من فاعلية القوانين ويحول دون نشوء ثقافة قانونية تنشر الوعي بالحقوق والواجبات. وهكذا تصبح البنية القانونية مجرد اطار شكلي لا يغير السلوك السياسي للمجتمع، بل قد يستخدم لتجميل صورة السلطة دون تغيير جوهري في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
هذا التناقض بين القانون والثقافة يكشف ان التحول السياسي لا يمكن ان يتحقق عبر النصوص وحدها، بل يتطلب تغييرا في الوعي الجماعي وانماط التنشئة السياسية، وبناء ثقافة مجتمعية تتبنى القيم الديمقراطية وتؤمن بدور المواطن كمحور للعملية السياسية.
4. دور التعليم والإعلام في تشكيل الثقافة السياسية
يلعب كل من التعليم والإعلام دورا مركزيا في بناء الثقافة السياسية داخل العالم العربي، اذ يمثلان القناتين الاكثر تأثيرا في نقل القيم والمفاهيم السياسية الى الافراد منذ الطفولة وحتى سن الرشد. فالمناهج الدراسية لا تقتصر على تقديم معلومات تاريخية وقانونية، بل تزرع في اذهان التلاميذ رؤية معينة للدولة والسلطة والمواطنة. عندما يركّز المنهج على الحفظ والتلقين ويهمش التفكير النقدي، ينمو جيل يميل الى الطاعة ويخشى المشاركة العلنية، بينما يخلق التعليم القائم على الحوار والنقاش طلابا قادرين على مساءلة السياسات العامة والمطالبة بالحقوق.
اما الإعلام، بوسائله التقليدية والرقمية، فيؤدي دورا مكملا ومضاعفا لتأثير المدرسة، اذ يمطر الجمهور بمواد اخبارية وتحليلية وترفيهية تشكل مخزونهم الرمزي عن الدولة والمعارضة وحرية التعبير. الإعلام الرسمي الذي يقتصر على وجهة نظر واحدة يعزز ثقافة الاتكالية وينفر الناس من السياسة او يدفعهم الى الانخراط في مسارات غير سلمية. في المقابل، يساهم الإعلام المستقل والمتنوع في نشر قيم الشفافية والمحاسبة وتشجيع المواطنين على متابعة الشأن العام وفهم تعقيداته.
ويلعب التعليم والإعلام معا دور مرآة عاكسة لسياسات النظام السياسي، فإذا اتسمتا بالتعددية والاستقلالية ساعدتا على بناء ثقافة سياسية تدعم الاصلاح والمشاركة، اما اذا خضعتا للرقابة والقيود فقد تنتجان ثقافة قائمة على الخوف واللامبالاة. من هنا تأتي اهمية تحديث المناهج، وتحرير الإعلام، وتطوير مهارات التفكير النقدي، باعتبارها خطوات جوهرية نحو تكوين ثقافة سياسية قادرة على الموازنة بين تراث المجتمع ومتطلبات العصر.
5. أثر التحولات الاقتصادية والاجتماعية
شهد العالم العربي خلال العقود الاخيرة تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة أثرت بشكل مباشر في ملامح الثقافة السياسية. فقد ساهمت عوامل مثل ارتفاع نسب البطالة، واتساع الفجوة بين الطبقات، وتراجع الطبقة الوسطى، في تغيير نظرة المواطن إلى الدولة وإلى دوره السياسي داخل المجتمع.
في كثير من البلدان العربية، ارتبط الاقتصاد بالنظام الريعي، حيث تهيمن الدولة على الموارد وتوزعها وفق الولاء السياسي لا الكفاءة، ما عزز ثقافة الاتكال على الدولة لا ثقافة المبادرة والمساءلة. هذا النموذج الاقتصادي أنتج نمطا من العلاقات السياسية قائم على الزبونية والمحسوبية، وأضعف قيم المشاركة السياسية، وزرع اللامبالاة أو الشعور بالعجز لدى المواطنين تجاه التغيير.
كما أدت التحولات الاجتماعية، مثل التحضر المتسارع، والهجرة نحو المدن الكبرى، وتفكك البنى التقليدية، إلى تغيير في أنماط الانتماء والهويات. ومع اتساع الهوة بين فئات الشباب والنخب السياسية، بدأ يظهر وعي سياسي جديد لدى الأجيال الشابة، يعتمد على أدوات التواصل الحديثة، ويرفض الخطابات التقليدية.
ظهرت حركات احتجاجية متعددة في أكثر من دولة عربية نتيجة لهذه التحولات، رافقها ارتفاع في منسوب الوعي السياسي، خاصة بين الشباب والطبقات المهمشة. ومع ذلك، بقي هذا الوعي في كثير من الأحيان غير مؤطر تنظيميا، وغالبا ما اصطدم بعوائق بنيوية داخل الأنظمة السياسية والمؤسسات الاجتماعية.
يمكن القول إن التحولات الاقتصادية والاجتماعية أفرزت ثقافة سياسية مزدوجة، تجمع بين الرفض والانتظار، وبين المطالبة والشك، مما يعكس أزمة ثقة عميقة بين المواطن والدولة. لذلك فإن تحقيق الاستقرار السياسي لا يمكن فصله عن إصلاحات اقتصادية شاملة وعدالة اجتماعية حقيقية تضمن دمج جميع الفئات في الحياة العامة وترسخ ثقافة المواطنة النشطة.
6. الحركات الاجتماعية وظهور ثقافة التغيير
ساهمت الحركات الاجتماعية في العالم العربي خلال السنوات الاخيرة في إحداث نقلة نوعية في مسار الثقافة السياسية، حيث لعبت دورا محوريا في كسر نمط الخضوع التقليدي وإعادة تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة. وقد جاءت هذه الحركات كرد فعل على أوضاع اقتصادية صعبة، وفساد سياسي، وتهميش اجتماعي، فوجد فيها المواطن العادي وسيلة للتعبير عن مطالبه وطموحاته خارج الأطر الرسمية الضيقة.
شهدت عدة بلدان عربية موجات من الاحتجاجات والمظاهرات، أبرزها تلك التي عرفها الشارع العربي منذ العام 2011، والتي أظهرت أن هناك تحولا في وعي شرائح واسعة من المجتمع، خاصة الشباب، الذين بدأوا يعبرون عن أنفسهم بلغات سياسية جديدة، تقوم على الحقوق والمساءلة والعدالة الاجتماعية. وقد شكلت هذه التحركات مؤشرا على نشوء ثقافة سياسية جديدة، أكثر جرأة وانفتاحا على مفاهيم المواطنة النشطة والتغيير من الأسفل.
لم تعد السياسة حكرا على النخب الحزبية أو الزعامات التقليدية، بل أصبحت مفهوما مفتوحا يتفاعل فيه المواطن مع قضاياه اليومية. ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا بارزا في تمكين الأفراد من تنظيم أنفسهم والتأثير في الرأي العام بعيدا عن الوسائل التقليدية للسلطة.
لكن في المقابل، واجهت هذه الحركات تحديات كبيرة، مثل القمع، وغياب التنظيم، والانقسامات الأيديولوجية، مما حد من قدرتها على تحقيق تغييرات مؤسسية دائمة. ومع ذلك، فقد ساهمت بشكل جوهري في زعزعة البنى السياسية الجامدة، وفتحت المجال أمام إعادة التفكير في دور المواطن، وقوة الصوت الشعبي، ومكانة الشارع كفاعل سياسي.
إن الحركات الاجتماعية أفرزت ثقافة سياسية بديلة تتسم بالتمرد على الواقع، والمطالبة بالمشاركة، والبحث عن مستقبل أكثر عدلا، وهي ثقافة قد لا تكون مستقرة بعد، لكنها بالتأكيد تمثل بداية تشكل وعي سياسي جديد في المجتمعات العربية.
7. العوائق البنيوية أمام تحديث الثقافة السياسية
يواجه تحديث الثقافة السياسية في العالم العربي مجموعة من العوائق البنيوية العميقة، التي تحول دون انتقال المجتمعات من أنماط تقليدية في الوعي السياسي إلى أشكال حديثة تؤمن بالمواطنة والمشاركة والمسؤولية. هذه العوائق ليست مؤقتة أو عرضية، بل ترتبط ببنية السلطة والمجتمع ومؤسساتهما.
أحد أبرز هذه العوائق هو الاستبداد السياسي، حيث تهيمن أنظمة حكم سلطوية تُقصي المعارضة، وتحدّ من الحريات العامة، وتُحجم مؤسسات التمثيل الشعبي. في ظل هذا السياق، يصعب ترسيخ ثقافة المشاركة أو بناء الثقة بين المواطن والدولة، لأن المواطن يُربّى على الخوف، والابتعاد عن العمل العام، وعدم الثقة بالنظام السياسي.
ثاني هذه العوائق يتمثل في ضعف مؤسسات المجتمع المدني. فالعديد من الجمعيات والهيئات غير الحكومية في العالم العربي تعاني من الرقابة والتضييق، مما يحد من قدرتها على نشر الوعي السياسي، وتنمية القيم الديمقراطية، وتكوين فضاء عام مستقل عن السلطة.
العائق الثالث هو النظام التعليمي التقليدي، الذي يكرس التلقين بدلا من التفكير النقدي، ويتجنب الخوض في الموضوعات السياسية، ويُنتج أجيالا لا تمتلك أدوات التحليل أو القدرة على التعبير عن الرأي بحرية. كما أن الإعلام الرسمي، في الكثير من الأحيان، يعمل على ترويج خطاب السلطة وإقصاء الأصوات المخالفة، مما يضعف التنوع والتعددية في الرأي.
وتضاف إلى هذه العوائق القيود الثقافية والاجتماعية، مثل سيطرة الأعراف والعلاقات الأبوية والقبلية، التي تحدّ من حرية الفرد في تبني مواقف سياسية مستقلة، وتفرض نمطاً من السلوك السياسي قائم على الطاعة والانتماء الضيق.
إن تجاوز هذه العوائق يتطلب إرادة سياسية حقيقية للإصلاح، وإعادة هيكلة المؤسسات التعليمية والإعلامية، وتوسيع الفضاء المدني، وضمان الحريات العامة، باعتبارها المدخل الحقيقي لبناء ثقافة سياسية حديثة تدعم الاستقرار والتقدم.
8. بين التأثير الخارجي والخصوصية الثقافية
تعيش الثقافة السياسية في العالم العربي حالة من التوتر الدائم بين ما تفرضه التأثيرات الخارجية من قيم ومعايير سياسية حديثة، وبين ما تقتضيه الخصوصية الثقافية المحلية من ثوابت ورؤى متجذرة في التاريخ والدين والعادات. هذا التداخل بين الخارج والداخل لم يكن يوما محايدا، بل كان مصدرا لتفاعلات معقدة ومتناقضة أثرت في مسار تطور الوعي السياسي لدى المجتمعات العربية.
من جهة، فرضت العولمة واقعا جديدا انتشرت فيه مفاهيم مثل الديمقراطية وحقوق الانسان والمشاركة السياسية وحرية التعبير. كما لعبت وسائل الاعلام الدولية وشبكات التواصل الاجتماعي دورا مباشرا في نقل هذه المفاهيم الى الفرد العربي، خاصة لدى فئة الشباب. ظهرت بذلك مطالب بالاصلاح والتغيير ومحاولات لاعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة وفق نماذج سياسية حديثة.
لكن في المقابل، اصطدمت هذه التأثيرات بخصوصيات ثقافية عميقة، من بينها المكانة الواسعة للدين في المجال العام، والارتباط القوي بالهوية الجماعية، ورفض ما يعتبر تغريبا للقيم والاعراف. وغالبا ما استخدمت الانظمة السياسية هذه الخصوصية لتبرير تعطيل الاصلاحات، والادعاء بان النماذج الغربية لا تصلح للتطبيق في السياق العربي.
هذا التوتر بين التأثير الخارجي والخصوصية الثقافية ادى الى بروز مواقف متباينة داخل المجتمعات العربية. فهناك من يرى في الحداثة السياسية وسيلة للتحرر وبناء مستقبل افضل، وهناك من يتوجس منها خوفا على الهوية والانتماء. والمطلوب اليوم ليس القطيعة مع العالم ولا الذوبان فيه، بل بناء نموذج ثقافي سياسي متوازن ينفتح على التطور دون ان يفقد ارتباطه بجذوره الاجتماعية والتاريخية.
خاتمة
تمثل الثقافة السياسية في العالم العربي مرآة صادقة لما يعيشه هذا الفضاء الجغرافي من تحولات عميقة، وتناقضات مستمرة، وتحديات متراكمة بين ما هو موروث تقليدي وما هو مطلوب من تجديد وتحديث. فهي ثقافة نشأت في ظل نظم حكم سلطوية، وتشكلت في بيئات اجتماعية محافظة، حيث غلبت قيم الطاعة والولاء الشخصي والانتماء القبلي أو الديني على قيم المشاركة والحقوق والمواطنة. وهذا ما جعلها ثقافة تميل إلى الجمود والانغلاق في وجه التغيير، رغم ما عرفته المجتمعات من إصلاحات شكلية ومؤسسات سياسية حديثة.
لقد ظهرت بوادر التحديث السياسي في أكثر من سياق عربي، سواء من خلال الدساتير والقوانين، أو الانتخابات والأحزاب، أو حتى الحركات الاحتجاجية والاعتراض المدني. لكن هذه التغيرات بقيت محدودة الأثر، ما دامت الثقافة السياسية في العالم العربي لم تشهد بعد التحول العميق القادر على خلق علاقة متوازنة بين المواطن والدولة تقوم على الثقة والشفافية والمشاركة. فالتعليم ما زال تقليديا، والإعلام محكوما بقيود، والمجتمع المدني يعاني من التضييق، والسلطة غالبا ما تتحصن خلف بنى مغلقة.
إن الثقافة السياسية في العالم العربي تعيش اليوم لحظة فارقة بين الاستمرار في إعادة إنتاج نمطها التقليدي، أو الانفتاح على إمكانيات التجديد التي يفرضها العصر، بما فيها من قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة. هذا التحول لن يتم بقرارات فوقية أو شعارات، بل من خلال تغيير عميق في بنية الوعي الجمعي، يبدأ من المدرسة وينتقل إلى الجامعة، ويتعزز عبر الإعلام، وينضج داخل مؤسسات المجتمع.
إن مستقبل الاستقرار والتقدم في العالم العربي لن يتحقق إلا عبر تجديد الثقافة السياسية وتجاوز التناقض القائم بين الشكل القانوني الحديث والممارسة الاجتماعية التقليدية. وحدها ثقافة سياسية نقدية، متحررة من الخوف، قادرة على بناء مجتمع مدني حي، ودولة قانون حقيقية، ومواطن فاعل لا تابع.
مراجع
1. علي الوردي
مهزلة العقل البشري
دار الوراق، يعالج فيه التناقضات بين البنى التقليدية والوعي الحديث في المجتمعات العربية، مع إشارات ثقافية سياسية.
2. حليم بركات
المجتمع العربي المعاصر: بحث سوسيولوجي
مركز دراسات الوحدة العربية، يتناول التحولات البنيوية في الثقافة والمجتمع والسياسة في العالم العربي.
3. برهان غليون
اغتيال العقل: مدخل إلى نقد العقل العربي
دار الأهالي، يناقش كيف يُستخدم الفكر لتبرير الاستبداد، ويكشف دور الثقافة في تكريس الخضوع السياسي.
4. سعد الدين إبراهيم
تحولات الثقافة السياسية في العالم العربي
مؤسسة فريدريش إيبرت، دراسة تحليلية لحالة الثقافة السياسية العربية من منظور علم الاجتماع السياسي.
5. عبد الإله بلقزيز
الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر
مركز دراسات الوحدة العربية، يحلل تفاعل الفكر السياسي الحديث مع الموروث الإسلامي.
6. فهمي جدعان
المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام
دار الشروق، يقدم إطارا فكريا حول العلاقة بين الدين والسلطة والثقافة السياسية في السياق العربي.
7. محمد عابد الجابري
العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته
مركز دراسات الوحدة العربية، من أهم المراجع التي تدرس العقل السياسي التقليدي العربي وأسس تغييره.
8. عزمي بشارة
المجتمع المدني: دراسة نقدية
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يعالج إشكاليات غياب الفاعلية السياسية للمجتمع العربي وبناء المواطنة الحديثة.
مواقع الكرتونية
1.العربي الجديد - “الثقافة السياسية” في المنطقة العربية أحد عشر باحثاً
يقدم متابعة نقدية لمنهجية دراسة الثقافة السياسية في السياق العربي، مع تحليل أثر التحولات الرقمية والشبكات الاجتماعية
رابط: الثقافة-السياسية-في-المنطقة-العربية-أحد-عشر-باحثاً
2.تلفزيون سوريا - الثقافة السياسية. دراسات من المنطقة العربية وعنها
يعرض مراجعة لكتاب جماعي صادر عن المركز العربي للأبحاث، يسعى لإحياء الاهتمام الأكاديمي بالثقافة السياسية في العالم العربي
رابط: الثقافة-السياسية-دراسات-من-المنطقة-العربية-وعنها
3.السياسة الثقافية في التحديث - القدس العربي
يناقش نماذج الحداثة الثقافية في العالم العربي، والصدام بين الموروث وبين محاولات التحديث والتحوّل السياسي
رابط: السياسة-الثقافية-في-التحديث
4.التغيرات الاجتماعية في المجتمعات العربية بين التقليد والتحديث - صحيفة السياسة
تتناول المقالة أثر التحولات الاجتماعية والاقتصادية على العادات والديناميات السياسية داخل المجتمعات العربية
رابط: التغيرات-الاجتماعية-في-المجتمعات-العربية-بين-التقليد-والتحديث
Strategic File. 5 - نحو ثقافة سياسية جديدة (بقلم محمد محفوظ)
يدعو المقال إلى تفكيك ثقافة الاستبداد وبناء ثقافة سياسية ديمقراطية جديدة تقوم على سيادة القانون والمشاركة
اترك تعليق جميل يظهر رقي صاحبه