مشكلات التنشئة الاجتماعية
تمثل مشكلات التنشئة الاجتماعية خللا في العملية التي من خلالها يكتسب الفرد القيم والمعايير والسلوكيات المطلوبة للاندماج في المجتمع. تظهر هذه المشكلات نتيجة عوامل متعددة، اهمها التفكك الاسري، ضعف التواصل بين الاباء والابناء، اساليب التربية القمعية او المتساهلة بشكل مفرط، وغياب القدوة الصالحة. كما تسهم المدرسة احيانا في تفاقم المشكلة بسبب الاعتماد على التلقين وتجاهل الجوانب النفسية والاجتماعية للطلاب.
وسائل الاعلام ايضا تلعب دورا خطيرا حين تقدم نماذج سلوكية منحرفة او تروج للعنف والتمييز، ما يؤدي الى تشويه الوعي وبناء صورة مشوشة عن الواقع. ولا يقل دور جماعة الاقران اهمية، اذ قد تدفع الى الانحراف اذا لم يرافقها توجيه تربوي سليم.
تنعكس هذه المشكلات على الفرد من خلال ضعف الهوية، اضطراب السلوك، انخفاض مستوى الانتماء، والعجز عن التكيف مع المجتمع. اما على مستوى المجتمع، فتظهر من خلال ارتفاع معدلات الجريمة، ضعف التماسك الاجتماعي، وانتشار القيم السلبية مثل الانانية والعنف واللامسؤولية.
معالجة مشكلات التنشئة الاجتماعية تتطلب تعاونا شاملا بين الاسرة والمدرسة والاعلام والمؤسسات الثقافية، لاعادة التوازن الى هذه العملية الحيوية، وبناء شخصية انسانية متكاملة قادرة على التفاعل الايجابي مع بيئتها.
1. مفهوم مشكلات التنشئة الاجتماعية
مشكلات التنشئة الاجتماعية تشير الى الاختلالات التي تحدث خلال عملية تفاعل الفرد مع محيطه الاجتماعي، والتي تعوقه عن اكتساب المهارات والقيم والمعايير الضرورية التي تمكنه من الاندماج الفعال داخل المجتمع. فالتنشئة الاجتماعية تهدف في الاصل الى بناء فرد قادر على التكيف، يملك وعيا سلوكيا، وانتماء واضحا، وقدرة على التفاعل الايجابي مع الآخرين. لكن عندما تتعرض هذه العملية للخلل، تظهر نتائج سلبية تؤثر على الفرد والمجتمع معا.
تتجلى مشكلات التنشئة في عدة صور، مثل الانحراف السلوكي، حيث يميل الفرد الى مخالفة القواعد الاجتماعية بسبب سوء التوجيه او غياب الرقابة او ضعف الضبط الداخلي. كما قد يعاني من اضطرابات في العلاقات الاجتماعية، كالعزلة، العدوان، او الفشل في بناء علاقات مستقرة. وتظهر ايضا في شكل ضعف الانتماء، سواء للاسرة او المجتمع او الوطن، ما يجعل الفرد يشعر بالاغتراب والانفصال عن محيطه.
من المشكلات الاخرى تشوش الهوية، وهي من اخطر نتائج التنشئة غير السليمة، حيث يفشل الفرد في تحديد من هو، وماذا يريد، واي منظومة قيمية ينتمي اليها. وقد يتأرجح بين مرجعيات متعددة دون ثبات، ما يسبب له اضطرابا داخليا ينعكس على سلوكه ومواقفه.
تظهر مشكلات التنشئة في مراحل عمرية مختلفة، الا ان اخطرها غالبا ما يتكون في مراحل الطفولة والمراهقة، حيث تكون الشخصية في طور التشكيل، ويكون التأثير الخارجي اقوى. وكلما طالت فترة التعرض لهذه المشكلات دون تدخل تربوي او اجتماعي، زادت احتمالات تحولها الى انماط سلوكية مستقرة يصعب تعديلها لاحقا.
باختصار، فان مشكلات التنشئة الاجتماعية لا تمثل مجرد خلل عابر، بل هي مؤشر خطير على وجود ازمة في وظائف مؤسسات التنشئة، وتحتاج الى دراسة دقيقة لفهم اسبابها، وتحليل نتائجها، ووضع استراتيجيات فاعلة لعلاجها لضمان بناء شخصية انسانية متوازنة ومنتمية.
2. الأسباب الأسرية لمشكلات التنشئة
تعد الاسرة المحيط الاجتماعي الاول والاكثر تأثيرا في حياة الطفل، فهي التي تضع البذور الاولى للقيم والسلوك والانتماء. ومن خلالها يكتسب الفرد انماط التفاعل، ويتعلم اللغة، والانضباط، واساليب التواصل. وعليه، فان اي خلل في بنية الاسرة او في طرق تعاملها مع ابنائها يؤدي بالضرورة الى نشوء مشكلات تنشئة تترك آثارا عميقة في شخصية الفرد.
من اهم هذه الاسباب:
- غياب الحوار بين الاباء والابناء: عندما تفتقر الاسرة الى اسلوب تواصلي صحي، يشعر الطفل بالعزلة، وعدم الفهم، ويتجه الى مصادر خارجية قد تكون غير آمنة لتعويض هذا النقص. كما يؤدي غياب الحوار الى تراكم الصراعات النفسية، ونقص الثقة بالنفس، والشك في قيمة الذات.
- العنف الاسري او الاهمال العاطفي: استخدام القوة الجسدية او اللفظية في التعامل مع الابناء، او اهمال احتياجاتهم العاطفية، يؤدي الى شعور دائم بالخوف، ويولد مشاعر عدائية او انسحابية. وهذا ينعكس سلبا على بناء الشخصية ويؤثر في الاستقرار الانفعالي للفرد.
- التفكك الاسري او الطلاق: الاسرة المفككة تفتقر الى الاستقرار، مما يخلق بيئة مضطربة تؤثر على شعور الطفل بالامان والانتماء. فالطلاق مثلا قد يترك اثرا نفسيا عميقا، ويدفع الطفل الى العزلة او السلوك العدواني، او حتى البحث عن بدائل منحرفة للسلطة والرعاية.
- التمييز بين الابناء داخل الاسرة: حين يُفضل احد الابناء على حساب الآخر، يشعر الطفل بالرفض والاحباط، مما يؤدي الى الغيرة والعداء داخل الاسرة، وينتج عنه ضعف في تكوين الصورة الذاتية، واحيانا انطواء او تمرد.
كل هذه العوامل تؤثر سلبا في التنشئة، وتعرقل بناء شخصية متوازنة. كما انها تمهد الطريق لظهور انماط من السلوك المنحرف او غير المتكيف، مثل الكذب، العنف، الكراهية، أو ضعف الانتماء الاجتماعي. ولذلك، فإن اصلاح مشكلات التنشئة يبدأ من اصلاح البيئة الاسرية، ورفع وعي الوالدين بمسؤوليتهم في التوجيه، والرعاية، والحوار، والعدل داخل الاسرة.
3. المدرسة والتنشئة غير المتوازنة
تلعب المدرسة دورا محوريا في عملية التنشئة الاجتماعية الثانوية، حيث ينتقل الطفل من دائرة الاسرة الضيقة الى فضاء اجتماعي اوسع يتفاعل فيه مع المعلمين والزملاء والانظمة الرسمية. ومن خلال هذا الفضاء يتعلم الانضباط، احترام القانون، التعاون، وتنمية التفكير المنهجي. غير ان هذا الدور قد يتحول الى عامل سلبي اذا كانت بيئة المدرسة تعاني من اختلالات في الاساليب التربوية او في العلاقات الاجتماعية داخلها.
من بين ابرز مظاهر التنشئة غير المتوازنة في المدرسة:
- ضعف العلاقة بين المعلمين والتلاميذ: عندما تسود العلاقة التربوية اجواء من التوتر او التجاهل او التسلط، يشعر الطالب بالرفض ويبدأ في الانسحاب النفسي، او التمرد السلوكي، مما يضعف من اندماجه في الجماعة المدرسية.
- اعتماد اساليب تربوية تقليدية تقوم على التلقين: التعليم الذي يركز فقط على الحفظ دون تنمية التفكير والنقاش والابداع يؤدي الى انتاج شخصيات غير فاعلة، تخشى الخطأ، وتفتقد الى المبادرة والاستقلالية.
- غياب الانشطة اللامنهجية: تشكل الانشطة الثقافية والفنية والرياضية رافدا مهما لتنمية المهارات الاجتماعية، وتعزيز الثقة بالنفس، والتعبير عن الذات. غياب هذه الانشطة يجعل من المدرسة بيئة جامدة لا تشبع حاجات الطالب النفسية والاجتماعية.
- التسلط او العقاب المفرط: استخدام العقاب كوسيلة اساسية للضبط يؤدي الى تكريس الخوف والنفور من المؤسسة التعليمية، وقد ينتج عنه رفض للسلطة بشكل عام، وانخفاض في الدافعية للتعلم، والشعور بعدم الانتماء.
ان المدرسة التي لا تراعي ابعاد التنشئة المتوازنة تساهم بشكل غير مباشر في انتاج مشكلات نفسية وسلوكية لدى الطلبة، مثل العزلة، العدوانية، انخفاض الطموح، ضعف المهارات الاجتماعية، وانعدام الثقة بالنفس. ولهذا، فان اصلاح بيئة المدرسة وتطوير مناهجها واساليبها التربوية يعتبر عنصرا اساسيا لمعالجة مشكلات التنشئة، وبناء جيل اكثر توازنا وانخراطا في المجتمع.
4. تأثير وسائل الإعلام
تمثل وسائل الاعلام الحديثة احد اقوى مصادر التنشئة غير الرسمية، نظرا لاتساع نطاقها وسهولة الوصول اليها، وقدرتها على التأثير المباشر في سلوك الافراد واتجاهاتهم. فهي لا تكتفي بنقل المعلومات، بل تُعيد تشكيل القيم والانماط الاجتماعية عبر المحتوى الذي تقدمه، مما يجعلها فاعلا مركزيا في توجيه الرأي العام، وتكوين الوعي الجمعي، خاصة لدى فئات الشباب والاطفال.
غير ان هذا التأثير لا يكون دائما ايجابيا، اذ تقدم وسائل الاعلام في كثير من الاحيان مضامين مشوهة، او منحرفة عن القيم الاخلاقية والاجتماعية السليمة، ومن بين هذه التأثيرات:
- العنف المفرط في الافلام والالعاب: يعزز هذا النوع من المحتوى سلوكا عدوانيا لدى المتلقين، ويدفعهم الى تقبل العنف كوسيلة حل للمشكلات، او كمظهر من مظاهر البطولة.
- تسطيح القيم الاخلاقية وتقديم انماط استهلاكية سطحية: حيث يتم التركيز على المظهر، الرفاهية، والتفاهة، مع تغييب قيم مثل التضامن، الصبر، والاحترام.
- نشر مفاهيم مغلوطة حول الهوية والحرية والاستقلال: إذ يتم احيانا تصوير الحرية على انها انفلات من المسؤولية، او ان الاستقلال يعني التمرد على المجتمع، ما يؤدي الى تشويش في المفاهيم الاساسية التي يقوم عليها التوازن الشخصي والاجتماعي.
- تعزيز قيم الشهرة والمال دون اعتبار للجهد او الاخلاق: ما يغذي الطموحات السطحية ويُضعف من قيمة العمل والانجاز الحقيقي، ويقود الى ازمات في تقدير الذات والانتماء الاجتماعي.
كل هذه التأثيرات تُنتج سلوكيات ومواقف مشوهة، قد تتعارض مع قيم المجتمع، وتُضعف من احساس الفرد بالانتماء والهوية. ولهذا، فان مراقبة المحتوى الاعلامي، وتوجيهه نحو بناء القيم الايجابية، اصبح ضرورة تربوية وثقافية، لا تقل اهمية عن دور الاسرة والمدرسة في التنشئة الاجتماعية.
5. الأقران والانحراف الجماعي
تعد جماعة الاقران من اهم المؤثرات في حياة الفرد، خاصة في مرحلة المراهقة، حيث يبحث الشاب عن الاعتراف بهويته، ويطمح الى الانتماء الى جماعة يتقاسم معها الاهتمامات والقيم والتجارب. وفي ظل هذا البحث، تصبح جماعة الاقران مصدرا قويا للتأثير، وقد تتفوق في بعض الحالات على تأثير الاسرة او المدرسة، خصوصا اذا كانت العلاقات الاسرية ضعيفة، او البيئة المدرسية غير محفزة.
يكتسب الفرد من جماعة الاقران معاني جديدة للسلوك والمواقف، ويُعيد من خلالها تشكيل منظومة القيم التي نشأ عليها. لكن هذه الجماعة قد تكون في بعض الاحيان مصدرا لانحراف السلوك، اذا تبنت قيما مضادة للقيم المجتمعية، وشجعت على التمرد او الرفض او العنف.
من العوامل التي تزيد من قابلية الفرد للتأثر السلبي بجماعة الاقران:
- غياب الرقابة الاسرية، حيث يشعر المراهق بفراغ تربوي يدفعه للبحث عن بدائل في الخارج
- ضعف التوجيه المدرسي، مما يجعله اكثر عرضة للانقياد دون وعي
- الرغبة في اثبات الذات والتميز داخل الجماعة، وهو ما يؤدي احيانا الى التقليد الاعمى لسلوكيات خاطئة من اجل القبول والاعتراف
قد يؤدي هذا التأثير الى انخراط بعض الشباب في سلوكيات ضارة، مثل تعاطي المخدرات، العنف، السرقة، الغش، او التطرف الفكري. كما يسهم في بناء مواقف عدائية تجاه المدرسة او الاسرة، ويضعف من ارتباط الفرد بالقيم الايجابية والانتماء للمجتمع.
لهذا، فان التعامل مع تأثير جماعة الاقران يتطلب استراتيجية شاملة تقوم على تعزيز دور الاسرة في المتابعة والتواصل، وتفعيل دور المدرسة في بناء جماعات ايجابية داخل الانشطة، وتقديم نماذج قدوة تحفز على السلوك البناء، مع ضرورة توجيه الشباب نحو تطوير قدراتهم الفردية واستقلاليتهم الفكرية في مواجهة الضغوط الجماعية.
6. التحولات الاجتماعية والثقافية
يعيش الفرد في العصر الحديث وسط بيئة اجتماعية وثقافية متغيرة بشكل متسارع، بفعل عوامل عدة، أبرزها العولمة، التطور التكنولوجي، التغيرات الاقتصادية، والانفتاح الثقافي. هذه التحولات أحدثت خللا في منظومة القيم والمعايير التي توجه سلوك الأفراد، وأثرت في استقرار التنشئة الاجتماعية، خصوصا في المجتمعات التي لم تُواكب هذه التغيرات برؤية تربوية واضحة.
في الماضي، كانت القيم الاجتماعية تتسم بالثبات النسبي، وتُنقل من جيل إلى آخر عبر الأسرة والمدرسة والدين، في إطار ثقافة محلية واضحة. أما اليوم، فقد أصبح الفرد يتلقى تأثيرات من مصادر متعددة ومتعارضة، كوسائل الإعلام، الإنترنت، الثقافة العالمية، وشبكات التواصل، مما خلق صراعا بين القيم التقليدية التي تدعو إلى الالتزام والانضباط، والقيم المستحدثة التي تميل نحو الحرية الفردية والاستهلاك والسرعة.
هذا التناقض يولّد أزمة هوية، خاصة لدى الشباب، الذين يجدون أنفسهم بين مرجعيات متضاربة: الأسرة تدعو إلى الثبات والامتثال، بينما العالم الرقمي يدعو إلى التحرر والتجريب. وغالبا ما يؤدي هذا إلى شعور بالتمزق النفسي، وفقدان البوصلة القيمية، بل والاغتراب الاجتماعي، حين يشعر الفرد بأنه غريب عن محيطه وغير منسجم معه.
كما تؤدي هذه التحولات إلى تراجع دور مؤسسات التنشئة التقليدية، إذ لم تعد الأسرة أو المدرسة وحدها قادرة على ضبط وتوجيه السلوك، ما يستدعي تطوير سياسات تربوية وثقافية قادرة على استيعاب هذا الواقع الجديد، وإعادة التوازن بين الثابت والمتغير، لحماية الفرد من التشتت والفراغ القيمي. فالفرد المتأثر بالتحولات الثقافية دون وعي نقدي يصبح أكثر عرضة للضياع، والعجز عن بناء هوية مستقرة وانتماء واضح.
7. ضعف التنشئة الدينية والقيمية
يُعد البعد الديني والقيمي أحد أهم المكونات الأساسية في بناء شخصية الفرد وتشكيل ضميره الأخلاقي، حيث يمنحه منظومة مرجعية تحدد له ما هو صواب وما هو خطأ، وتوجه سلوكه في علاقته بنفسه وبالآخرين. غير أن هذا الجانب بات يعاني من التراجع في كثير من البيئات الاجتماعية، إما نتيجة إهمال الأسرة له في التربية، أو بسبب تراجع دور المؤسسات الدينية والثقافية في التأثير الفعلي على حياة الناس اليومية.
تتمثل مظاهر هذا الضعف في:
- ضعف الضمير الأخلاقي: إذ لم يعد لدى بعض الأفراد شعور داخلي قوي بالمسؤولية أو الرقابة الذاتية، ما يجعلهم أكثر استعدادًا لمخالفة القيم إذا غابت الرقابة الخارجية.
- غياب المعايير الثابتة للحكم على السلوك: فالطفل أو المراهق الذي لم يتربّ على قيم واضحة، يصبح عرضة للتشويش، ويتبنى مفاهيم متناقضة مستمدة من مصادر إعلامية أو محيط غير منضبط.
- فقدان التوازن بين الحرية والمسؤولية: ففي غياب القيم، قد تتحول الحرية إلى فوضى، ويُفهم الاستقلال الشخصي بمعزل عن احترام الآخر أو الالتزام المجتمعي.
إن ضعف التنشئة الدينية لا يعني غياب التديّن بالضرورة، بل يشير إلى تراجع التربية على القيم الجوهرية مثل الصدق، الأمانة، الرحمة، الاحترام، والعمل الصالح، سواء تم ذلك في إطار ديني أو إنساني. كما أن التركيز على الطقوس الشكلية دون ربطها بالسلوك اليومي يجعل التنشئة القيمية سطحية وضعيفة التأثير.
ولمعالجة هذه المشكلة، ينبغي إعادة الاعتبار للتربية القيمية، من خلال تعزيز دور الأسرة كمصدر أول للأخلاق، وتجديد الخطاب الديني ليواكب تحديات العصر، وتفعيل البرامج التعليمية التي تربط بين المعارف والقيم في السلوك العملي، لضمان نشأة أجيال متوازنة أخلاقيًا وقادرة على ممارسة حريتها بوعي ومسؤولية.
8. آثار مشكلات التنشئة الاجتماعية
تترك مشكلات التنشئة الاجتماعية آثارا عميقة تتجاوز حدود الفرد لتطال المجتمع بأسره، لأنها تمس جوهر العلاقة بين الإنسان ومحيطه، وتؤثر في طبيعة القيم والسلوكيات التي يتبناها. فعندما تكون عملية التنشئة مختلة أو غير متوازنة، فإن النتائج لا تقتصر على ضعف في النمو الشخصي، بل تمتد لتخلق اختلالات في البناء الاجتماعي والثقافي.
من أبرز هذه الآثار:
- ظهور العنف المجتمعي: غياب التربية السليمة وفشل مؤسسات التنشئة في غرس قيم الحوار والتسامح يؤدي إلى سلوك عدواني لدى الأفراد، يظهر في الشارع، المدرسة، وأحيانًا داخل الأسرة نفسها، مما يُضعف الأمن الاجتماعي.
- ارتفاع نسب الانحراف والجريمة: عندما لا يكتسب الفرد منظومة أخلاقية واضحة أو يعاني من التفكك الأسري والإهمال، يصبح أكثر عرضة للوقوع في الانحرافات السلوكية كتعاطي المخدرات، السرقة، أو الجرائم المنظمة.
- تراجع الانتماء والهوية الوطنية: التنشئة المشوشة أو المتناقضة تفقد الفرد إحساسه بالانتماء إلى مجتمعه، وتجعله عرضة لثقافات بديلة لا تنسجم مع هويته الأصلية، ما يؤدي إلى ضعف في الارتباط الوطني والولاء الجمعي.
- ضعف القيم الإنسانية والتسامح: مشكلات التنشئة تضعف من قدرة الأفراد على قبول الآخر، وتغذي روح التعصب والتفرقة والتمييز، مما يؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي وفقدان روح التضامن.
- تفشي الأنانية والانغلاق: حين لا يُربّى الفرد على القيم الاجتماعية الإيجابية مثل العطاء والتعاون، تنمو لديه نزعة فردية مفرطة، تؤدي إلى الانعزال واللامبالاة تجاه قضايا المجتمع.
إن هذه المظاهر، حين تتراكم، تفرغ المجتمع من مقوماته الأساسية، وتُضعف مناعته في مواجهة الأزمات، وتعيق مسيرة التنمية والاستقرار. ولهذا فإن إصلاح مشكلات التنشئة لا يعد ترفا تربويا، بل ضرورة استراتيجية لضمان بناء مجتمع متماسك، عادل، وقادر على التقدم بثقة وتوازن.
خاتمة
تشكل مشكلات التنشئة الاجتماعية تحديا حقيقيا أمام المجتمعات المعاصرة، لما لها من تأثير مباشر على توازن الأفراد وسلوكهم، وعلى استقرار العلاقات الاجتماعية وتماسك البنية الثقافية. فالتنشئة ليست مجرد عملية تلقين أو تعليم، بل هي منظومة متكاملة تهدف إلى إعداد الفرد للاندماج في محيطه، وتطوير وعيه وانتمائه ومسؤوليته تجاه نفسه والآخرين. وعندما تفشل هذه العملية أو تتعرض لاختلالات، فإن النتيجة تكون جيلاً يعاني من اضطراب في الهوية، وغياب في المرجعية القيمية، وميلاً متزايداً إلى السلوكيات المنحرفة أو العدوانية أو اللامنتمية.
إن أبرز مظاهر مشكلات التنشئة الاجتماعية تتجلى في العنف المجتمعي، ضعف الانتماء الوطني، ارتفاع نسب الجريمة، وانهيار القيم الإنسانية، وكلها مظاهر تشير إلى فشل الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام في أداء أدوارها التربوية بشكل متكامل وفاعل. كما أن تسارع التحولات الاجتماعية والثقافية، وانتشار الإعلام الرقمي ومواقع التواصل، أوجد بيئة مفتوحة تتجاوز حدود الرقابة التقليدية، وأصبحت مصدرًا غير منضبط للتأثير في القيم والسلوكيات، ما زاد من حدة هذه المشكلات.
لذلك فإن التصدي لمشكلات التنشئة الاجتماعية يتطلب رؤية شاملة تدمج بين الجوانب التربوية والاجتماعية والثقافية، وتعيد الاعتبار للأسرة بوصفها النواة الأولى للتربية، وتعزز من دور المدرسة في بناء التفكير النقدي، وتقنن تأثير وسائل الإعلام ضمن إطار قيمي مسؤول. كما تبرز الحاجة إلى برامج وقائية وتوعوية تستهدف الأطفال والمراهقين، وإلى تكوين كوادر مهنية قادرة على مرافقة الأفراد في مختلف مراحل التنشئة.
إن إصلاح مسار التنشئة الاجتماعية ليس مجرد واجب تربوي، بل هو استثمار استراتيجي في مستقبل المجتمع، لأن بناء الإنسان القادر على التفاعل الإيجابي، المنتمي الواعي، هو المدخل الحقيقي لتحقيق التنمية والاستقرار والعدالة الاجتماعية. فالمجتمع المتماسك يبدأ من فرد سوي، والتنشئة السليمة هي المفتاح الأول لبنائه.
مراجع
1. مشكلات الطفولة والمراهقة
المؤلف: د. عبد الرحمن العيسوي
يتناول هذا الكتاب أثر اضطرابات التنشئة في مراحل الطفولة والمراهقة، وعوامل الأسرة والمدرسة في صنع السلوك المنحرف.
2. علم الاجتماع التربوي
المؤلف: د. عبد الباسط محمد حسين
يشرح العلاقة بين التربية والمجتمع، ويناقش أسباب ضعف التنشئة في ظل التحولات الاجتماعية.
3. الأسرة والتنشئة الاجتماعية
المؤلف: د. عبد العزيز السيد الشخص
يركز على دور الأسرة، ويعرض بالتفصيل مشكلات مثل العنف الأسري والطلاق والإهمال.
4. التنشئة الاجتماعية وأثرها في بناء الشخصية
المؤلف: د. محمد عاطف غيث
كتاب كلاسيكي في علم الاجتماع، يبرز أنماط التنشئة وآثار الخلل فيها على الفرد والمجتمع.
5. علم النفس الاجتماعي
المؤلف: د. حسن مصطفى الشافعي
يحتوي على تحليل نفسي اجتماعي لظاهرة الانحراف، وضعف الضمير القيمي، وتشكل الهوية.
6. المدرسة ومشكلات المجتمع
المؤلف: د. عبد الحميد بدر
يناقش كيف تساهم المدرسة في صنع مشكلات التنشئة عندما تغيب عنها الرؤية التربوية السليمة.
7. وسائل الإعلام والتنشئة الاجتماعية
المؤلف: د. سامي عبد العزيز
يعالج التأثير العميق للإعلام الحديث في قيم وسلوك الأجيال، ويدرس ظاهرة الانفصال الثقافي.
8. قيم الشباب العربي في عصر العولمة
المؤلف: د. مجدي عزيز إبراهيم
يربط بين التحولات الثقافية والاقتصادية والعولمة، وبين تآكل القيم التقليدية لدى الأجيال الصاعدة.
مواقع الكرتونية
1.موضوع - العوامل المؤثرة في التنشئة الاجتماعية
يتناول المقال أبرز العوامل المؤثرة، ويذْكر كيف تؤدي الاختلالات فيها إلى مشكلات تنشئة اجتماعية
رابط: العوامل_المؤثرة_في_التنشئة_الاجتماعية
2. أفكار الكتب من أخضر - معوقات التنشئة الاجتماعية
يستعرض العوائق التي تمنع التنشئة السليمة، مثل غياب القدوة وتأثيرها في شخصية الطفل
رابط: معوقات-التنشئة-الاجتماعية
3. إي عربي - مشكلات التنشئة الاجتماعية في علم الاجتماع الرياضي
يوضح كيف تؤثر تنزيل الممارسات السلبية ضمن الإطار الرياضي على الشخصية والسلوك الاجتماعي
رابط: ما-هي-مشكلات-التنشئة-الاجتماعية-في-علم-الاجتماع-الرياضي/
4. المجلة الجزائرية للعلوم الاجتماعية - تحديات التنشئة في العالم الرقمي
تحليل للتأثيرات التكنولوجية الحالية على التنشئة الاجتماعية والتحديات الناجمة عنها
رابط: https://asjp.cerist.dz
5. بوابة علم النفس - بحث كامل عن التنشئة الاجتماعية (PDF)
يوفر عرضًا متكاملاً لمفهوم التنشئة الاجتماعية، مراحلها، وأشكال مشكلاتها عبر PDF قابل للتحميل)
رابط: بحث-كامل-التنشئة-الاجتماعية-pdf/
6. موقع الأوائل - ما هي التنشئة الاجتماعية؟ وأهميتها؟
يوضح العلاقة بين التنشئة والفرد والمجتمع، ويسلط الضوء على مصادر المشكلات ذات الصلة
اترك تعليق جميل يظهر رقي صاحبه