بحث حول التنشئة الاجتماعية
تعد التنشئة الاجتماعية من المفاهيم الجوهرية في علم الاجتماع والتربية، إذ تمثل العملية التي من خلالها يكتسب الفرد القيم والمعايير والسلوكيات الاجتماعية التي تؤهله للاندماج والتفاعل داخل مجتمعه. وتبدأ هذه العملية منذ الطفولة المبكرة، حيث يتأثر الطفل أولًا بأسرته، ثم بالمدرسة، ووسائل الإعلام، والجماعات القرينية، والمؤسسات الدينية والثقافية. وبذلك لا تكون التنشئة فعلا فرديا أو تلقائيا، بل هي بناء اجتماعي منظم ومتدرج، يتم عبر قنوات ومؤسسات متعددة.
تلعب التنشئة دورا محوريا في بناء الهوية الفردية وترسيخ الانتماء الاجتماعي، كما تسهم في نقل الثقافة من جيل إلى آخر، وتحقيق التماسك الاجتماعي. غير أن هذه العملية ليست ثابتة أو موحدة، بل تتأثر بالتحولات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والتكنولوجية، ما يؤدي إلى تنوع أنماط التنشئة واختلاف مضامينها عبر الزمن والمجتمعات.
إن فهم آليات التنشئة الاجتماعية وأبعادها النظرية والتطبيقية يعد أمرا أساسيا لفهم طبيعة الإنسان المعاصر، خاصة في ظل التحديات الراهنة مثل العولمة، والرقمنة، والانقسام الثقافي، مما يدفع إلى إعادة التفكير في طرق تربية الأجيال وتوجيهها في عالم متغيّر باستمرار.
الفصل الأول : مفهوم التنشئة الاجتماعية وأبعادها
—> 1. تعريف التنشئة الاجتماعية
التنشئة الاجتماعية هي عملية مستمرة تهدف إلى إدماج الفرد في المجتمع من خلال تلقينه القيم، والمعايير، والرموز، والعادات، والتقاليد التي تسود في بيئته الثقافية والاجتماعية، ليصبح قادرًا على التفاعل مع الآخرين وأداء أدواره الاجتماعية المختلفة.
يبدأ هذا المسار منذ لحظة الميلاد، ويستمر طوال حياة الإنسان، حيث يتعلم الطفل عبره كيف يكون عضوًا فاعلًا في مجتمعه، ويتطور سلوكه ليكون متوافقًا مع التوقعات الاجتماعية السائدة. وتشمل التنشئة الاجتماعية جوانب معرفية (كاللغة والدين)، وسلوكية (كطرق التعامل والتواصل)، وانفعالية (مثل الانضباط والضبط الذاتي).
وتتم هذه العملية من خلال مجموعة من المؤسسات أو العوامل التي تؤثر في الفرد مثل الأسرة، والمدرسة، ووسائل الإعلام، والأصدقاء، والمؤسسات الدينية. وتعد التنشئة ركيزة أساسية في تشكيل الهوية الاجتماعية للفرد، وضمان استقرار المجتمع، ونقل ثقافته من جيل إلى آخر.
ويختلف مفهوم التنشئة من مجتمع إلى آخر، ومن فترة زمنية إلى أخرى، تبعًا للبيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لكن جوهرها يظل قائمًا على تحويل الكائن البيولوجي إلى كائن اجتماعي قادر على العيش في الجماعة وفق قواعدها ومبادئها.
—> 2. أهداف التنشئة الاجتماعية
تسعى التنشئة الاجتماعية إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الأساسية التي تضمن تماسك المجتمع، وتكوين أفراد قادرين على التفاعل الإيجابي مع بيئتهم. ومن أبرز هذه الأهداف:
1. تكوين الهوية الشخصية والاجتماعية
تهدف التنشئة إلى بناء شخصية الفرد، وتحديد موقعه داخل المجتمع من خلال غرس القيم، والانتماء، والوعي بالذات وبالآخرين.
2. نقل الثقافة من جيل إلى آخر
تُعد التنشئة وسيلة لنقل العادات، والتقاليد، والمعتقدات، والمعارف، والرموز الثقافية من الأجيال السابقة إلى الأجيال الجديدة، لضمان استمرارية الهوية المجتمعية.
3. اكتساب المهارات الاجتماعية
تساعد التنشئة على تعليم الفرد كيفية التفاعل مع الآخرين، من خلال تعلم آداب التواصل، وأدوار الجنسين، واحترام القوانين الاجتماعية.
4. ضبط السلوك وتنظيمه
تغرس التنشئة المعايير التي تميز بين السلوك المقبول وغير المقبول، وتُسهم في تعزيز الضبط الذاتي، والانضباط، والمسؤولية الأخلاقية.
5. إعداد الفرد للأدوار الاجتماعية
تهيئ التنشئة الأفراد للقيام بأدوارهم المستقبلية كأب، أم، عامل، مواطن، قائد... إلخ، وفقًا لتوقعات المجتمع.
6. تعزيز الانتماء والولاء الجماعي
تهدف التنشئة إلى ترسيخ شعور الفرد بالانتماء للأسرة، والجماعة، والوطن، مما يعزز التضامن الاجتماعي والاستقرار.
7. التكيف مع التغيرات المجتمعية
تساعد التنشئة على مرونة الفرد في التكيّف مع المستجدات والتحولات الثقافية والاقتصادية، دون فقدان هويته الأساسية.
باختصار، فإن أهداف التنشئة الاجتماعية لا تقتصر على إعداد الفرد فحسب، بل تسهم أيضًا في تحقيق الانسجام داخل المجتمع والحفاظ على استقراره وتقدّمه.
—> 3. مراحل التنشئة الاجتماعية
تمر عملية التنشئة الاجتماعية بعدة مراحل متتابعة، ترتبط بتطور الفرد البيولوجي والنفسي والاجتماعي، ولكل مرحلة خصائصها الخاصة ومؤسساتها المؤثرة. ويمكن تقسيم هذه المراحل إلى ثلاث فترات أساسية:
أولا: مرحلة الطفولة
تعد الطفولة المرحلة التأسيسية في التنشئة، حيث يكتسب الطفل أولى مفاهيمه عن العالم من حوله. تبدأ هذه المرحلة من الولادة حتى سن 12 تقريبا.
الخصائص:
- الاعتماد الكلي على الأسرة كمصدر للتعلم والتوجيه.
- تعلّم اللغة، والعواطف الأساسية، ومفاهيم الخير والشر.
- اكتساب القيم والسلوكيات من خلال التقليد والمحاكاة.
المؤسسات المؤثرة:
- الأسرة (بشكل رئيسي)،
- الحضانة أو رياض الأطفال،
- وسائل الإعلام المبكرة (الرسوم، الألعاب، التلفاز).
ثانيا: مرحلة المراهقة
تمتد من سن 12 إلى حدود 18 أو بداية العشرينات، وتتميز بتغيرات جسدية ونفسية عميقة، وسعي الفرد نحو الاستقلال عن الأسرة.
الخصائص:
- إعادة النظر في القيم المكتسبة في الطفولة.
- بروز الحاجة إلى الهوية الشخصية والانتماء.
- ميل نحو التأثر بالأصدقاء ووسائل الإعلام.
المؤسسات المؤثرة:
- الجماعات القرينية (الأصدقاء)،
- المدرسة،
- وسائل الإعلام،
- أحيانًا المؤسسات الدينية.
ثالثا: مرحلة الرشد
هي المرحلة التي يصبح فيها الفرد ناضجًا ومسؤولا، وغالبا ما تمتد من بداية العشرينات حتى نهاية العمر.
الخصائص:
- تحمل المسؤوليات الاجتماعية والاقتصادية (العمل، الأسرة، المواطنة).
- تثبيت الهوية الاجتماعية.
- مشاركة فعالة في المجتمع.
المؤسسات المؤثرة:
- الأسرة (كربّ أو ربة أسرة)،
- بيئة العمل،
- المجتمع المدني،
- الدولة ومؤسساتها،
- الإعلام.
كل مرحلة من هذه المراحل تمثل خطوة أساسية في بناء الشخصية الاجتماعية، وتُظهر كيف أن التنشئة الاجتماعية هي عملية ديناميكية لا تتوقف عند الطفولة، بل تمتد مدى الحياة.
—> 4. أنواع التنشئة الاجتماعية
تقسم التنشئة الاجتماعية إلى أنواع متعددة، حسب المرحلة التي تتم فيها، والجهة التي تؤديها، والأدوار التي يتم إعداد الفرد لها. ومن أبرز هذه الأنواع:
أولا: التنشئة الاجتماعية الأولية
هي أولى مراحل التنشئة التي يتعرض لها الفرد في بداية حياته، وتحدث غالبًا داخل الأسرة.
الخصائص:
- تبدأ من الولادة وتستمر حتى دخول المدرسة.
- تتركز حول تعلّم اللغة، والقيم الأساسية، والتمييز بين الصواب والخطأ.
- تُشكّل الأساس النفسي والعاطفي والأخلاقي للفرد.
المؤسسات المؤثرة:
- الأسرة (بصورة أساسية)،
- الحضانة،
- البيئة المباشرة (مثل الجيران).
ثانيا: التنشئة الاجتماعية الثانوية
تبدأ بعد مرحلة الطفولة، عندما يبدأ الفرد بالاندماج في مؤسسات المجتمع المختلفة خارج إطار الأسرة.
الخصائص:
- تتم في المدرسة، وأماكن العمل، والجماعات القرينية، ووسائل الإعلام.
- تركز على الأدوار الاجتماعية الجديدة مثل دور الطالب، أو المواطن، أو العامل.
- قد تؤدي إلى إعادة تفسير أو تعديل بعض ما تم اكتسابه في المرحلة الأولية.
المؤسسات المؤثرة:
- المدرسة،
- الجماعات القرينية،
- وسائل الإعلام،
- المؤسسات الدينية،
- المجتمع المدني.
ثالثا: التنشئة الاجتماعية المستمرة (أو المتجددة)
وهي نوع من التنشئة يستمر طوال حياة الإنسان، تفرضه الظروف المتغيرة والمتطلبات الجديدة في المجتمع.
الخصائص:
- تحدث نتيجة للتغيرات الاجتماعية، أو المهنية، أو السياسية (مثل الهجرة، البطالة، الزواج، أو التحول في المعتقدات).
- تعيد تشكيل سلوك الفرد أو مفاهيمه بما يتناسب مع الواقع الجديد.
- تُظهر مرونة التنشئة وعدم انتهائها عند سنّ معين.
أمثلة:
- اكتساب مهارات جديدة في العمل،
- إعادة إدماج المهاجر في مجتمع جديد،
- تحوّل في المواقف نتيجة الأزمات أو التجارب الحياتية.
تمثّل هذه الأنواع الثلاثة دورة متكاملة في حياة الإنسان، تؤكد على أن التنشئة ليست لحظة عابرة، بل عملية مستمرة ترافق الفرد من المهد إلى اللحد، وتتكيف مع كل مرحلة وظرف.
—> 5. وظائف التنشئة الاجتماعية في المجتمع
تلعب التنشئة الاجتماعية دورًا محوريًا في بناء الأفراد وتنظيم المجتمعات، إذ إنها لا تقتصر على تشكيل شخصية الفرد فحسب، بل تمتد لتؤدي وظائف حيوية تضمن الاستمرارية والتوازن الاجتماعي. وفيما يلي أبرز وظائف التنشئة الاجتماعية:
1. نقل الثقافة والقيم المجتمعية
تعد التنشئة وسيلة أساسية لنقل التراث الثقافي والمعرفي من جيل إلى آخر، بما يشمل اللغة، المعتقدات، العادات، القيم، والمعايير التي تُعبّر عن هوية المجتمع. فهي التي تحفظ استمرارية الثقافة وتمنع تفككها عبر الزمن.
2. بناء الشخصية الفردية
من خلال التنشئة، يكتسب الفرد ملامح شخصيته ومهاراته الاجتماعية، ويتعلم كيف يتفاعل مع الآخرين، ويطوّر مفهومًا عن ذاته ومكانته في المجتمع. وهي ما تُعينه على تشكيل هويته النفسية والاجتماعية.
3. الضبط الاجتماعي
تسهم التنشئة في غرس الضوابط الأخلاقية والقانونية، وتحديد ما هو مقبول وغير مقبول في السلوك البشري. وبهذا تُصبح أداة لتنظيم السلوك، والحدّ من الانحراف، وضمان الامتثال للقواعد العامة.
4. تكوين الاتجاهات والانتماءات
تساعد التنشئة الفرد على تبنّي اتجاهات سياسية، دينية، ثقافية، ومهنية، وتشكل انتماءه للجماعة، للوطن، أو لفكرة معينة، مما يعزّز شعوره بالهوية والانخراط الاجتماعي.
5. إعداد الفرد لأداء الأدوار الاجتماعية
تهيئ التنشئة الفرد للقيام بالأدوار المطلوبة منه في مجالات الحياة المختلفة (الأسرة، العمل، المواطنة...)، وتعلّمه مسؤولياته وحقوقه، وكيفية التفاعل مع الأطر الاجتماعية التي ينتمي إليها.
6. التكيّف مع التغيرات المجتمعية
تمكن التنشئة الفرد من مواجهة التحولات في المجتمع، مثل العولمة أو التغيرات التكنولوجية، بتعديل سلوكياته وتفكيره دون فقدان توازنه الشخصي والاجتماعي.
7. تعزيز التماسك الاجتماعي
من خلال بناء قيم مشتركة، تسهم التنشئة في تقوية روابط التضامن، والتفاهم، والاحترام المتبادل بين الأفراد، مما يحافظ على استقرار المجتمع واستمراريته.
باختصار، تمثل وظائف التنشئة الاجتماعية العمود الفقري لأي مجتمع مستقر، وهي ما يُمكّنه من إعادة إنتاج نفسه باستمرار، وتربية أفراده ليكونوا فاعلين ومنتجين ومنتمين إليه.
الفصل الثاني : نظريات التنشئة الاجتماعية
—> 1. النظرية البنيوية الوظيفية (دوركايم - بارسونز) في التنشئة الاجتماعية
تعد النظرية البنيوية الوظيفية من أبرز النظريات الكلاسيكية في علم الاجتماع، وقد أسهم كل من إميل دوركايم وتالكوت بارسونز في تطويرها، حيث نظرا إلى المجتمع بوصفه نسقًا مترابطًا من البنى (المؤسسات) التي تؤدي وظائف محددة لضمان استمراره وتوازنه.
أولا: إميل دوركايم والتنشئة الاجتماعية
يرى دوركايم أن التنشئة الاجتماعية هي الأداة التي يستخدمها المجتمع لغرس القيم الجماعية في نفوس أفراده، وهي ضرورية لجعل الإنسان "كائنًا اجتماعيًا".
من وجهة نظره:
- يتعلّم الفرد عبر التنشئة احترام السلطة، والامتثال للقواعد، مما يساعد على حفظ النظام الاجتماعي.
- المدرسة، بعد الأسرة، تلعب دورًا جوهريًا في ترسيخ الانضباط والانتماء الجماعي.
- تعد التنشئة وسيلة لضبط الأهواء الفردية عبر "الضمير الجمعي"، أي تلك القيم والمعايير التي يتقاسمها المجتمع.
ثانيا: تالكوت بارسونز والتنظيم الوظيفي للتنشئة
أكمل بارسونز ما بدأه دوركايم، فاعتبر أن التنشئة الاجتماعية وسيلة لإدماج الفرد في البناء الاجتماعي عبر تعلم الأدوار.
حسب بارسونز:
- تؤدي مؤسسات التنشئة (مثل الأسرة والمدرسة) وظيفة -"تنظيمية"- بتعليم الأفراد كيفية أداء أدوارهم (كالطالب، المواطن، العامل...).
- تضمن التنشئة بقاء النظام الاجتماعي من خلال تعزيز القيم المشتركة، كالإنجاز، والطموح، والطاعة، والتعاون.
- تعتمد التنشئة على -نقل الرموز الثقافية- التي تسهّل التفاعل الاجتماعي وتمنع الفوضى أو الانهيار البنيوي.
خلاصة الطرح الوظيفي
يرى البنيويون الوظيفيون أن التنشئة الاجتماعية وظيفة جماعية محورية تضمن:
- توازن المجتمع واستمراريته.
- اندماج الأفراد ضمن النظام القائم.
- التوافق بين الأدوار الاجتماعية والقيم الثقافية.
ومع أن هذه النظرية تعرضت لاحقًا للانتقاد بسبب تجاهلها للصراعات الاجتماعية أو الأبعاد النقدية، فإنها تبقى مرجعًا مهمًا لفهم كيف يرى المجتمع نفسه بوصفه نسقًا يسعى إلى الاستقرار والانضباط عبر التنشئة.
—> 2. النظرية التفاعلية الرمزية (ميد - بلومر) في التنشئة الاجتماعية
تمثل النظرية التفاعلية الرمزية منظورًا سوسيولوجيا يركّز على التفاعل اليومي بين الأفراد، وعلى كيفية بناء المعاني من خلال الرموز واللغة. وقد برزت هذه النظرية في بدايات القرن العشرين بفضل أعمال جورج هربرت ميد، وطُوّرت لاحقًا على يد هربرت بلومر، الذي صاغ مصطلح "التفاعلية الرمزية".
أولا: جورج هربرت ميد - الذات تنمو عبر التفاعل
يرى ميد أن الذات لا تولد مع الفرد، بل تُبنى اجتماعيًا من خلال التفاعل مع الآخرين.
ويُقسّم الذات إلى:
- الـ"Me": الجانب الاجتماعي من الذات، ويعكس توقعات المجتمع.
- الـ"I": الجانب الفردي التلقائي، والذي يستجيب للتوقعات.
في نظر ميد، التنشئة الاجتماعية عملية تَعلّم الفرد كيف يرى نفسه من خلال "عيون الآخرين"، وهو ما يُعرف بـالذات المنعكسة.
ثانيا: هربرت بلومر - المعنى يصنع عبر التفاعل
بلومر طوّر أفكار ميد إلى ثلاثة مبادئ أساسية للتفاعلية الرمزية:
1. الأفراد يتصرفون بناءً على المعاني التي تُعطى للأشياء (مثل الأب، المعلم، الوطن...).
2. هذه المعاني تُبنى من خلال التفاعل الاجتماعي.
3. المعاني تتغير وتتطور عبر التفاعل المستمر.
وفقا لهذا المنظور، فإن التنشئة الاجتماعية ليست تلقينا، بل هي عملية تفاعلية يُعيد فيها الفرد تفسير المواقف والأدوار من خلال احتكاكه بالآخرين، خاصة في الأسرة، المدرسة، الأصدقاء، ووسائل الإعلام.
أثر النظرية التفاعلية الرمزية على فهم التنشئة الاجتماعية
- تبرز أهمية التجربة اليومية، وليس فقط القواعد المجردة.
- تؤكد على دور اللغة والرموز في بناء الهوية والقيم.
- توضح أن الفرد ليس سلبيًا في التنشئة، بل يشارك في بنائها عبر تفسيره للأدوار والمعاني.
تركز النظرية التفاعلية الرمزية على البُعد الذاتي في التنشئة الاجتماعية، وتُظهر كيف تتشكل القيم والهويات من خلال التفاعل الاجتماعي المستمر. فهي ترى أن المجتمع ليس قوة تفرض على الفرد، بل مساحة يبني فيها الأفراد ذواتهم من خلال التواصل والفهم المشترك.
—> 3. نظرية التعلم الاجتماعي (ألبيرت باندورا) في التنشئة الاجتماعية
تعد نظرية التعلم الاجتماعي التي طورها ألبيرت باندورا من أبرز النظريات النفسية في تفسير التنشئة الاجتماعية، إذ تجمع بين المفهوم السلوكي التقليدي والمفهوم المعرفي الحديث، لتوضيح كيف يتعلم الإنسان من خلال الملاحظة والتقليد، وليس فقط عبر التجربة المباشرة.-
مبادئ نظرية التعلم الاجتماعي
يرى باندورا أن السلوك الإنساني لا يتكون فقط من خلال التعزيز والعقاب، كما تقول المدرسة السلوكية، بل يتعلم الأفراد من خلال النماذج الاجتماعية التي يشاهدونها ويقلدونها، ويكون ذلك عبر أربع مراحل:
1. الانتباه: يجب على الفرد أن يلاحظ النموذج جيدًا (مثل الأب، المعلم، الشخصية التلفزيونية...).
2. الاحتفاظ: تخزين ما تم ملاحظته في الذاكرة.
3. إعادة الإنتاج: محاولة تقليد السلوك الذي تم الاحتفاظ به.
4. الدافعية: وجود دافع لتكرار السلوك، ويُعزّز ذلك بالمكافآت أو القبول الاجتماعي.
التنشئة الاجتماعية في ضوء نظرية باندورا
- الطفل يتعلم السلوك الاجتماعي من خلال مشاهدة ما يفعله الآخرون، خاصة الوالدين، المدرسين، الأصدقاء، وشخصيات الإعلام.
- لا يحتاج الطفل إلى أن يُكافأ شخصيًا حتى يكتسب السلوك، بل يكفي أن يرى أن النموذج تم مكافأته على فعل معيّن.
- من هنا، تؤدي وسائل الإعلام دورًا مؤثرًا في التنشئة، لأنها تقدم نماذج متعددة من السلوك يمكن للأطفال أن يقلدوها.
أمثلة من الواقع
- الطفل الذي يرى والده يتحدث بلطف مع الآخرين، غالبًا ما يقلّده ويتبنى السلوك نفسه.
- المراهق الذي يشاهد بطلًا سينمائيًا يتصرّف بعنف قد يحاول تقليده، إذا شعر أن هذا السلوك يُكسبه قوة أو احترامًا.
تبرز نظرية التعلم الاجتماعي أهمية النماذج في حياة الفرد، وتؤكد أن التنشئة الاجتماعية عملية تفاعلية معرفية - سلوكية، تتطلب انتباهًا، واختيارًا، ودافعًا. وهي توضح كيف يمكن للبيئة أن تزرع السلوك دون فرض مباشر، بل من خلال المراقبة والتقليد والتفاعل.
—> 4. النظرية السلوكية (سكينر - واطسون) في التنشئة الاجتماعية
تعتبر النظرية السلوكية من النظريات الأساسية في علم النفس الاجتماعي، والتي تركز على تأثير البيئة الخارجية في تشكيل سلوك الأفراد. وتستند هذه النظرية إلى فكرة أن السلوك الإنساني يتم تعلمه استجابة للبيئة من خلال التعزيز والعقاب. وقد طورها كل من جون واطسون وب. ف. سكينر، مع تركيز كل منهما على جوانب مختلفة من السلوك.
أولا: جون واطسون والنظرية السلوكية
يُعتبر جون واطسون مؤسس السلوكية، حيث اعتمد على الفكرة الأساسية أن السلوك الإنساني هو استجابة مباشرة للمؤثرات البيئية.
وابتكر واطسون فكرة "الشرطية" التي بموجبها يمكن تشكيل سلوك الإنسان من خلال التعزيزات البيئية.
- يرى واطسون أن التنشئة الاجتماعية هي عملية تعلم تتشكل من خلال المحفزات (المؤثرات البيئية) والاستجابات (سلوك الأفراد).
- أجرى واطسون تجارب مشهورة على الأطفال، مثل "الطفل الصغير ألبرت"، ليثبت أن الخوف، مثل غيره من المشاعر، يمكن أن يُكتسب من خلال التعزيز السلبي أو المحفزات غير الطبيعية.
ثانيا: ب. ف. سكينر والنظرية السلوكية
أما ب. ف. سكينر، فقد طوّر نظرية التعلم بالملاحظة والتعزيز، وأكد أن السلوك لا يُكتسب فقط من خلال المحفزات، بل من خلال التعزيز الإيجابي والتعزيز السلبي.
- التعزيز الإيجابي: يعني تقديم مكافأة بعد السلوك المرغوب، مما يزيد من احتمالية تكرار هذا السلوك.
- التعزيز السلبي: يعني إزالة المحفزات غير المرغوب فيها بعد السلوك المرغوب، مما يعزز تكرار السلوك.
مثال: إذا قام الطفل بتنظيف غرفته، قد يحصل على مكافأة (تعزيز إيجابي) أو قد يزيل عنه عقابًا (تعزيز سلبي) مثل تجنب لوم الوالدين.
التنشئة الاجتماعية في ضوء النظرية السلوكية
في النظرية السلوكية، يتم بناء السلوك الاجتماعي من خلال التعزيزات التي يتلقاها الفرد من البيئة الاجتماعية (الأسرة، المدرسة، وسائل الإعلام). وفي هذه العملية:
- التعزيز الإيجابي: عندما يحصل الفرد على مكافآت (مثل الثناء أو الهدايا) بعد سلوك اجتماعي مرغوب، فهو يميل إلى تكرار هذا السلوك.
- التعزيز السلبي: عندما يتجنب الفرد العقاب (مثل النقد أو الاستبعاد الاجتماعي) عبر اتباع السلوكيات المقبولة اجتماعيًا، فإنه يستمر في هذه السلوكيات.
أمثلة من الواقع
- عندما يُثني الوالدان على طفل يقوم بعمل واجباته الدراسية، فإن الطفل يميل إلى تكرار هذا السلوك (تعزيز إيجابي).
- عندما يتجنب الطفل التوبيخ من المعلم عبر الجلوس بشكل هادئ في الفصل، فإنه يعزز سلوكه بهذا الشكل (تعزيز سلبي).
تعتبر النظرية السلوكية أن السلوك البشري يتم تشكيله من خلال المؤثرات البيئية، مثل التعزيزات والعقوبات. ووفقًا لهذه النظرية، تلعب التنشئة الاجتماعية دورًا أساسيًا في تشكيل سلوك الأفراد عبر التعزيزات السلوكية التي يتلقونها من البيئة المحيطة بهم.
—> 5. النظرية التحليلية النفسية (فرويد - إريكسون) في التنشئة الاجتماعية
تُعد النظرية التحليلية النفسية من أقدم النظريات في تفسير تطور الشخصية والتنشئة الاجتماعية، وقد أسّسها سيغموند فرويد، ثم طوّرها لاحقًا إريك إريكسون. وتقوم هذه النظرية على أن التنشئة الاجتماعية هي نتيجة لصراع داخلي بين الغرائز والضوابط الاجتماعية، وأن الفرد يتطور نفسيًا واجتماعيًا عبر مراحل متتابعة منذ الطفولة.
أولا: سيغموند فرويد - الصراع بين الهو والأنا والأنا الأعلى
يرى فرويد أن الشخصية تتكون من ثلاث مكونات رئيسية:
- الهو (Id): يمثل الرغبات الغريزية واللذة الفطرية.
- الأنا (Ego): الجزء الواعي الذي يتوسط بين الهو والمجتمع.
- الأنا الأعلى (Superego): يمثل الضمير والضوابط الأخلاقية المكتسبة من الأسرة والمجتمع.
وفقًا لفرويد، فإن التنشئة الاجتماعية تحدث عندما يبدأ "الأنا الأعلى" بالتشكل لدى الطفل عبر التأثر بالأبوين والمحيط، مما يساعده على ضبط غرائزه (الهو) وتعلم القيم والضوابط الاجتماعية.
مثال: عندما يتعلم الطفل أن التعدي على ممتلكات الآخرين أمر مرفوض، فإنه يبدأ بكبت الرغبة الغريزية عبر "الأنا الأعلى".
ثانيا: إريك إريكسون - مراحل النمو النفسي - الاجتماعي
طوّر إريكسون نظرية فرويد، لكنه ركّز على التفاعل مع المجتمع بدلًا من الغرائز، وطرح ثماني مراحل يمر بها الإنسان منذ الطفولة حتى الشيخوخة، ولكل مرحلة "صراع نفسي - اجتماعي" يجب حله.
من أبرز هذه المراحل:
- الثقة مقابل عدم الثقة (في الطفولة المبكرة): يكتسب الطفل الثقة من خلال رعاية الأبوين.
- الاستقلال مقابل الخجل (في الطفولة): يتعلم الطفل الاستقلال الذاتي.
- الهوية مقابل التشتت (في المراهقة): يبدأ الشاب في البحث عن هويته ودوره في المجتمع.
إذا تمكّن الفرد من اجتياز كل مرحلة بنجاح، تتشكل لديه شخصية مستقرة ومتكيفة اجتماعيًا.
التنشئة الاجتماعية في ضوء التحليل النفسي
- تبدأ في وقت مبكر جدًا من حياة الإنسان.
- تعتمد على العلاقة مع الوالدين (الخصوصًا الأم).
- يتعلم الطفل كيف يضبط رغباته لتتماشى مع التوقعات الاجتماعية.
- تتأثر بعمق بمراحل النمو النفسي - الاجتماعي التي يمر بها الفرد.
تؤكد النظرية التحليلية النفسية أن التنشئة الاجتماعية ليست مجرد تعلّم خارجي، بل عملية نفسية داخلية معقّدة، يتشكل فيها الضمير الأخلاقي، وتُبنى الهوية الذاتية، من خلال الصراع والتفاعل بين الفرد والبيئة. إنها تنظر إلى الطفل لا كمتلقٍ سلبي، بل ككائن نفسي يخوض رحلة طويلة من التكوين والتوازن بين دوافعه والواقع الاجتماعي.
—> 6. النظرية النقدية (مدرسة فرانكفورت) في التنشئة الاجتماعية
تُعد النظرية النقدية إحدى التيارات الفكرية والفلسفية الحديثة التي ظهرت في القرن العشرين على يد مجموعة من المفكرين المنتمين إلى ما يُعرف بـمدرسة فرانكفورت، ومن أبرزهم: هربرت ماركوز، ماكس هوركهايمر، تيودور أدورنو، يورغن هابرماس وغيرهم. وقد قدّمت هذه المدرسة قراءة نقدية عميقة للمجتمع الصناعي الحديث، مسلطة الضوء على كيفية هيمنة النظام الرأسمالي والإعلام والثقافة على الوعي الفردي والجماعي، بما في ذلك عملية التنشئة الاجتماعية.
أولا: مفهوم التنشئة في النظرية النقدية
يرى مفكرو مدرسة فرانكفورت أن التنشئة الاجتماعية لم تعد عملية حيادية تهدف إلى دمج الأفراد في المجتمع بشكل تلقائي وطبيعي، بل أصبحت أداة للضبط والسيطرة، تقوم من خلالها النخب السياسية والاقتصادية بإعادة إنتاج القيم والأفكار التي تخدم النظام القائم.
- التنشئة الاجتماعية تُستخدم لترسيخ الامتثال والطاعة بدلًا من التفكير النقدي.
- المؤسسات التي من المفترض أن تكون تنموية (كالمدرسة والأسرة والإعلام) أصبحت مواقع لإعادة إنتاج الأيديولوجيا السائدة.
- تُغذّي وسائل الإعلام الجماهيرية (الراديو، التلفزيون، السينما...) ثقافة الاستهلاك والتسلية، وتمنع الأفراد من التفكير المستقل.
ثانيا: نقد ماركوز وهابرماس للتنشئة
- هربرت ماركوز تحدث عن ما سمّاه "الإنسان ذو البُعد الواحد"، وهو الفرد الذي أصبح أسيرًا للوظيفة والاستهلاك، نتيجة تنشئة تجعله غير قادر على نقد واقعه أو مقاومة التوجيه الأيديولوجي.
- يورغن هابرماس ركّز على أهمية التواصل الحر والعقلاني في التنشئة، ورفض تحوّلها إلى عملية أحادية الاتجاه تفرض المعاني بدل أن تُناقشها.
خصائص التنشئة الاجتماعية حسب النظرية النقدية
- ليست محايدة بل موجهة أيديولوجيًا.
- تؤدي إلى الاغتراب الثقافي وفقدان القدرة على التفكير النقدي.
- تكرّس التفاوت الطبقي عبر جعل الفئات الشعبية تقبل بالأمر الواقع.
- تستعمل الإعلام والثقافة الجماهيرية كأدوات لصنع وعي زائف.
ترى النظرية النقدية أن التنشئة الاجتماعية المعاصرة أصبحت تخدم السلطة بدل أن تحرّر الإنسان. فهي لا تسعى فقط إلى إدماج الفرد في المجتمع، بل إلى تطويعه وتقييد وعيه، من خلال مؤسسات ومنظومات ثقافية وإعلامية تُخفي طبيعتها السلطوية تحت مظهر الحياد والحداثة.
ولهذا، تدعو هذه النظرية إلى إعادة النظر في آليات التنشئة، وتشجيع التفكير النقدي، والتعليم التحرري، وإشراك الأفراد في صناعة معانيهم، من أجل تحرير الإنسان من الهيمنة الثقافية والسياسية والاجتماعية.
الفصل الثالث : مؤسسات التنشئة الاجتماعية
تلعب مؤسسات التنشئة الاجتماعية دورًا حاسمًا في تشكيل شخصية الفرد وتحديد أنماط تفكيره وسلوكياته وقيمه. فالتنشئة الاجتماعية ليست مجرد عملية تربوية بل هي منظومة متكاملة تبدأ منذ الطفولة وتمتد على مدار الحياة، تهدف إلى دمج الفرد في المجتمع وإكسابه الهوية الاجتماعية والثقافية. وتتم هذه العملية من خلال مؤسسات متعددة تُعرف بمؤسسات التنشئة، تختلف من حيث وظائفها وأدواتها وتأثيرها وفقًا للسياق الثقافي والاجتماعي لكل مجتمع. في هذا المقال، نسلط الضوء على أبرز مؤسسات التنشئة الاجتماعية: الأسرة، المدرسة، وسائل الإعلام، الجماعات القرينية، المؤسسات الدينية، والمنظمات والمجتمع المدني، ونوضح وظائف كل منها في بناء شخصية الفرد وضمان تماسك المجتمع.
—> 1. الأسرة: النواة الأولى للتنشئة
الأسرة هي المؤسسة الأولى التي يحتك بها الطفل منذ ولادته، وتشكل الإطار المرجعي الأساسي لتكوينه النفسي والاجتماعي. ففي حضن الأسرة يتعلم الطفل اللغة الأولى، ويكتسب العواطف والقيم والمبادئ، ويتعرّف إلى الأدوار الاجتماعية الأولية كالعلاقة بين الأب والأم، وأدوار الذكر والأنثى.
تلعب الأسرة دورًا مهمًا في نقل الثقافة والتقاليد، كما تُعدّ مصدرًا أساسيًا للدعم العاطفي والاجتماعي. ويتفاوت أثر الأسرة في التنشئة باختلاف أنماطها (ممتدة أو نووية)، ومستوى التعليم والدخل، وأساليب التربية (سلطوية، ديمقراطية، متساهلة). فالأسرة الديمقراطية غالبًا ما تُنتج أفرادًا متوازنين وقادرين على التفاعل بإيجابية مع محيطهم.
—>2. المدرسة: انتقال من التنشئة العاطفية إلى التنشئة النظامية
تُعد المدرسة المحطة الثانية في حياة الطفل، حيث تنتقل التنشئة من فضاء الأسرة الخاص إلى فضاء عام منضبط. فالمدرسة تعزز الانضباط والالتزام، وتكسب الفرد المعارف والمهارات العقلية والاجتماعية اللازمة للاندماج في المجتمع.
لا تقتصر وظيفة المدرسة على التعليم الأكاديمي، بل تشمل أيضًا التربية على القيم المدنية، واحترام القانون، والتسامح، والعمل الجماعي. كما تؤدي دورًا كبيرًا في تقليل الفوارق الاجتماعية، وتوفير فرص للترقي الاجتماعي من خلال التفوق والجدارة. المعلم في هذا السياق يلعب دور النموذج المؤثر، ويصبح شريكًا في بناء شخصية المتعلم، جنبًا إلى جنب مع الأسرة.
—>3. وسائل الإعلام: التنشئة عن بُعد وبلا وسيط مباشر
في العصر الحديث، تحوّلت وسائل الإعلام إلى مؤسسة تنشئة قوية بل وأحيانًا مهيمنة. فالطفل والمراهق يتعرضان يوميًا لكم هائل من الرسائل الإعلامية عبر التلفاز، الإنترنت، منصات التواصل، مما يساهم في تشكيل وعيه وسلوكياته.
تلعب وسائل الإعلام دورا مزدوجا؛ فمن جهة تساهم في التثقيف ونشر القيم الإيجابية، ومن جهة أخرى قد تروّج لأنماط سلوكية غير منضبطة أو مستوردة ثقافيًا. ولهذا، فإن دور الإعلام لا يمكن فصله عن الرقابة المجتمعية والمهنية، لأن خطابه قد يؤثر على اتجاهات الشباب، وانتماءاتهم، ومواقفهم من الدين والسياسة والهوية الوطنية.
—>4. الجماعات القرينية (الأصدقاء): التنشئة عبر الأنداد
تعد الجماعات القرينية (الأصدقاء) من أهم مصادر التنشئة الاجتماعية، خصوصًا في مرحلتي الطفولة المتأخرة والمراهقة. ففي هذه المرحلة يبدأ الطفل في الانفصال تدريجيًا عن الأسرة، ويبحث عن الانتماء لجماعة أنداد تشاركه نفس الاهتمامات واللغة والمواقف.
توفر الجماعات القرينية مساحة للتجربة والتفاعل والتمرد أحيانًا، وتؤثر على أسلوب اللباس، واللغة، والهوايات، وحتى على المواقف الأخلاقية والدينية. وتزداد أهمية هذه الجماعات في غياب الرقابة الأسرية أو ضعف المؤسسات الأخرى، وقد تتحوّل في بعض السياقات إلى مصدر للانحراف إن لم تكن متوازنة.
—> 5. المؤسسات الدينية: تنشئة قائمة على الضوابط الروحية والأخلاقية
تلعب المؤسسات الدينية دورًا أساسيا في ترسيخ القيم الدينية، والمعايير الأخلاقية، والسلوكيات الاجتماعية السليمة. من خلال المساجد، والكنائس، والمعابد، يتعرّف الفرد إلى مفاهيم الخير والشر، والعدل، والتسامح، والتكافل، ويكوّن رؤية للعالم تنطلق من إيمانه الروحي.
في المجتمعات العربية والإسلامية، يحتل التعليم الديني مكانة محورية، سواء عبر الخطب، الدروس، أو التعليم الرسمي. وتؤثر المؤسسة الدينية أيضًا في القوانين والتقاليد، وفي توجيه السلوك العام، خاصة في ما يتعلق بالعلاقات الأسرية، والصدق، والأمانة، والانضباط الذاتي.
—> 6. المنظمات والمجتمع المدني: تنشئة تشاركية على قيم المواطنة
في العصر الحديث، برزت مؤسسات المجتمع المدني كفاعل جديد في عملية التنشئة، من خلال الجمعيات الثقافية، الرياضية، والإنسانية، التي تقدم فضاءات بديلة للتعلم والتعبير والمشاركة. تعمل هذه المؤسسات على تعميق ثقافة الحوار، والمشاركة المجتمعية، وتعزيز قيم التضامن، والتطوع، والديمقراطية.
وتكتسب هذه المؤسسات أهمية خاصة في ظل ضعف بعض مؤسسات التنشئة التقليدية، إذ تتيح للفرد فرصة الانخراط الفعلي في العمل الجماعي، وبناء القدرات الذاتية، والإحساس بالانتماء. كما تمثّل جسرًا بين الدولة والمجتمع، وتساهم في بناء رأي عام ناضج ومتماسك.
إنّ مؤسسات التنشئة الاجتماعية ليست كيانات مستقلة بل منظومة مترابطة تتكامل أدوارها لتكوين الفرد المواطن الصالح. ولكل مؤسسة منها خصوصيتها من حيث الوظيفة والوسيلة والأثر، كما أن فعاليتها ترتبط بمدى توازن المجتمع نفسه. ومع التغيرات المتسارعة التي يعرفها العالم، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في أدوار هذه المؤسسات، وتطوير أساليبها، وضمان تكاملها بما يعزز القيم الإنسانية والاجتماعية التي تضمن استقرار الأفراد وتماسك المجتمعات.
الفصل الرابع: التنشئة الاجتماعية وتحولات المجتمع المعاصر
—> 1. تغير أدوار الأسرة في التنشئة الاجتماعية الحديثة
شهدت الأسرة خلال العقود الأخيرة تحولات كبيرة أثّرت على موقعها ووظيفتها في عملية التنشئة الاجتماعية، نتيجة لعوامل متعددة مثل التحول الصناعي، التقدم التكنولوجي، العولمة، وتغيّر أنماط الحياة. وقد انعكس ذلك بوضوح على الدور التقليدي للأسرة باعتبارها أول وأهم مؤسسة اجتماعية تُعنى بتكوين شخصية الطفل وتوجيهه.
1. من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النووية
في المجتمعات التقليدية، كانت الأسرة الممتدة تضم عدة أجيال وتؤدي أدوارا متعددة (تربوية، اقتصادية، دينية، نفسية). أما اليوم، فقد سادت الأسرة النووية، ما جعل وظيفة التنشئة أكثر تركيزًا على الأب والأم فقط، مما زاد من الضغوط عليهما وأضعف من شبكات الدعم الأسري التقليدية.
2. خروج المرأة للعمل
كان للزيادة الكبيرة في مشاركة النساء في سوق العمل أثر مباشر على التفاعل اليومي بين الأمهات والأبناء، ما أدى إلى:
- تقليص الوقت المخصص للتربية المباشرة.
- زيادة الاعتماد على مؤسسات خارج الأسرة (مثل الحضانة والمدرسة).
- تغيير في توزيع الأدوار التربوية بين الأبوين.
3. تدخل وسائل الإعلام والتكنولوجيا
أصبح الأبناء اليوم يتعرضون لتأثيرات واسعة من التلفاز، الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، مما حدّ من احتكار الأسرة لدور التوجيه والقيم. فوسائل الإعلام تزوّد الطفل بنماذج بديلة للسلوك والمعرفة قد تتعارض مع ما تُقدّمه الأسرة.
4. تراجع السلطة الأسرية التقليدية
تأثر الأطفال والمراهقون بثقافة الفردانية والحقوق الشخصية، ما قلل من تأثير النمط السلطوي التقليدي للأب أو الأم، وفتح المجال أمام نمط تنشئة أكثر ديمقراطية وحوارا، لكنه في المقابل قلل من الحزم والانضباط أحيانًا.
5. التحولات القيمية داخل الأسرة
أدى الانفتاح الثقافي والعولمي إلى تراجع بعض القيم التقليدية وظهور قيم جديدة، وهو ما جعل الأسرة في كثير من الأحيان تدخل في صراع قيمي بين الحفاظ على الأصالة والاستجابة للتغيرات.
لم تفقد الأسرة دورها بالكامل في التنشئة الاجتماعية، لكنها لم تعد الفاعل الوحيد. فقد أصبح هذا الدور مشتركًا مع مؤسسات أخرى رسمية وغير رسمية، ما يتطلب من الأسرة الحديثة إعادة بناء دورها على أساس الشراكة، والمرونة، والحوار، لمواجهة التحديات الجديدة التي فرضتها التحولات المجتمعية.
—> 2. دور التكنولوجيا في تشكيل القيم والسلوك الاجتماعية
أحدثت التكنولوجيا، ولا سيما تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، تحوّلًا جذريًا في الطريقة التي يكتسب بها الأفراد القيم والمعارف ويتفاعلون بها داخل المجتمع. لم تعد الأسرة أو المدرسة وحدهما مصدر التنشئة الاجتماعية، بل أصبحت الوسائط الرقمية والمنصات التفاعلية لاعبين أساسيين في تكوين السلوك وتوجيه الوعي الجمعي والفردي.
1. التكنولوجيا كمصدر بديل للقيم والمعاني
من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث، وتطبيقات الفيديو، أصبح الأفراد - وخاصة الشباب - يتعرضون لمحتوى ضخم ومتنوع يحمل رموزًا ثقافية وسلوكية من مختلف أنحاء العالم. هذا التدفق المستمر:
- يكوّن لديهم رؤى جديدة حول الهوية، والجنس، والنجاح، والحرية.
- يضعف من تأثير القيم المحلية التقليدية.
- يسهم في نشوء هويات هجينة وعابرة للثقافات.
2. تطبيع أنماط سلوكية جديدة
تعمل التكنولوجيا على تطبيع بعض أنماط السلوك عبر التكرار والتقليد، مثل:
- الاستهلاك الفوري.
- التصوير الذاتي ومتابعة "المؤثرين".
- السلوكيات الرقمية كالإعجاب، التفاعل السطحي، أو التنمّر الإلكتروني.
هذه السلوكيات قد تؤثر على العلاقات الاجتماعية الواقعية، فتُشجع على العزلة أو تضعف مهارات التواصل المباشر.
3. التكنولوجيا كأداة للرقابة وتوجيه السلوك
لم تعد التكنولوجيا فقط وسيلة للعرض، بل أصبحت أداة للمراقبة والضبط الاجتماعي. فالأفراد يدركون أن سلوكهم مرئي ومسجّل، مما يدفعهم إلى تعديل سلوكهم وفقًا "للنظرة الرقمية" للآخرين، وهي نوع جديد من الضبط قائم على التفاعل اللحظي وردود الفعل الجماعية.
4. دور الخوارزميات في إعادة إنتاج القيم
الأنظمة الذكية التي تدير المحتوى في المنصات الاجتماعية (مثل يوتيوب وفيسبوك وتيك توك) توجّه المستخدمين لمحتوى معين يعزز من قناعاتهم، ما يؤدي إلى ما يُعرف بـغرف الصدى، حيث يُعاد إنتاج نفس القيم والمواقف، مما قد يخلق نوعًا من الاستقطاب الاجتماعي والثقافي.
5. التكنولوجيا والتنميط الثقافي
يؤدي تعرض الأفراد بشكل متكرر لثقافات مهيمنة (مثل الثقافة الأمريكية أو الكورية أو الغربية عمومًا) إلى:
- تبنّي أنماط لباس، تفكير، ترفيه، وتواصل غير متجذرة في الثقافة المحلية.
- تآكل بعض الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمجتمعات التقليدية.
لقد أصبح للتكنولوجيا دور مركزي في عملية التنشئة الاجتماعية الحديثة، فهي لا تكتفي بنقل القيم، بل تُنتجها وتُعيد تشكيلها وتوجيهها. وبينما توفر هذه التكنولوجيا فرصًا للتعليم والتواصل والانفتاح، فإنها تحمل في الوقت نفسه تحديات حقيقية تتعلق بهوية الأفراد، واستقرار القيم، ونمط العلاقات الاجتماعية. ولذلك، فإن التعامل مع التكنولوجيا لا ينبغي أن يكون تلقائيًا، بل يحتاج إلى وعي نقدي وتربية رقمية تُمكّن الأفراد من اختيار سلوكهم ومرجعيتهم بوعي واستقلال.
—> 3. تأثير العولمة على أنماط التنشئة الاجتماعية
أحدثت العولمة تحوّلات عميقة في بنية المجتمعات وعلاقاتها الداخلية، وكان من أبرز آثارها التغير الجذري في أنماط التنشئة الاجتماعية. فمع تكامل الأسواق، وتدفق المعلومات، وتداخل الثقافات، لم تعد التنشئة محصورة في الأسرة أو المدرسة أو البيئة المحلية، بل أصبحت خاضعة لتأثير قوى عالمية تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية.
1. تآكل السلطة التقليدية لمؤسسات التنشئة
أضعفت العولمة الدور المركزي للأسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية في تشكيل قيم الأفراد وسلوكهم، وذلك بسبب:
- انتشار وسائل الإعلام العابرة للحدود.
- صعود المنصات الرقمية كمصادر أساسية للمعرفة والتوجيه.
- الاحتكاك المباشر بثقافات مختلفة عبر الإنترنت والسفر والتعليم الدولي.
لم تعد الأسرة المصدر الوحيد للهوية، بل بات الأبناء يتأثرون بخطابات ومراجع عالمية قد تتعارض مع ما يتلقونه محليًا.
2. تنوّع المرجعيات القيمية
أنتجت العولمة بيئة متعددة القيم والمعايير، حيث بات الفرد يتعرض لمجموعة متباينة من المرجعيات، مثل:
- قيم السوق الاستهلاكي (النجاح، الفردانية، الأداء).
- ثقافة الحقوق والحريات الفردية.
- النزعات العالمية المتعلقة بالمساواة والنوع الاجتماعي والعلمانية.
هذا التنوّع يؤدي إلى صراع قيمي داخل الفرد بين ما تربى عليه وما يتعرض له من مؤثرات خارجية.
3. تشكّل أنماط تنشئة هجينة
نتيجة لتفاعل القيم المحلية مع الثقافات العالمية، ظهرت أنماط جديدة من التنشئة:
- مزيج من الانضباط التقليدي والانفتاح على الحرية.
- اعتماد على التربية الرقمية إلى جانب التوجيه المباشر.
- تنشئة تسعى للموازنة بين التقاليد والحداثة.
وغالبًا ما ينتج عن هذا النمط حالة من "اللااستقرار القيمي"، حيث يصبح الفرد متذبذبًا بين المرجعيات.
4. تكريس النزعة الفردية
العولمة تعزز من خطاب الفردانية على حساب الجماعة، وهو ما يؤثر على أهداف التنشئة، فتحوّلها من إعداد الفرد للاندماج في المجتمع، إلى تعزيز قدراته الشخصية وتحقيق طموحاته الذاتية، دون ارتباط بالهوية أو بالمسؤولية الاجتماعية.
5. إعادة تشكيل الهوية الثقافية
مع انتشار الثقافة الاستهلاكية والرموز العالمية، تغيّرت ملامح الهوية الشخصية، وأصبحت أكثر تشظيًا. فالشباب اليوم قد يحملون ولاءات متعددة (محلية، إقليمية، رقمية، عولمية)، ما ينعكس على طريقة فهمهم لذاتهم ولمحيطهم، وعلى الكيفية التي يربّون بها أبناءهم.
لقد أعادت العولمة صياغة أنماط التنشئة الاجتماعية عبر فتح المجال لتعدد المرجعيات، وتوسيع مصادر التأثير، وتحفيز الفردانية، وتحدي الهويات التقليدية. وبينما تتيح فرصًا للتفتح والانفتاح والتحديث، فإنها تطرح أيضًا تحديات عميقة تتعلق بالتوازن بين الانتماء المحلي والانخراط العالمي، وبين الأصالة والتجديد، وهي تحديات تحتاج إلى وعي مجتمعي ومؤسسات قادرة على احتواء هذا التحول وتوجيهه.
—> 4. أزمات التنشئة الاجتماعية في ظل النزاعات والهجرة والانقسام الثقافي
تمرّ مجتمعات كثيرة حول العالم اليوم بتحوّلات عميقة نتيجة النزاعات المسلحة، وحركات الهجرة، والانقسامات الثقافية الحادة، ما أدى إلى نشوء أزمات حادة في التنشئة الاجتماعية. فقد أصبحت البيئات التي يفترض أن تكون حاضنة لتربية الأفراد على القيم والاستقرار والاندماج، بيئات مضطربة أو مشروخة أو مهجّنة، مما أثر سلبًا على مسار التنشئة وفعالية المؤسسات المعنية بها.
1. النزاعات والحروب وتفكك البنية الاجتماعية
في سياقات النزاعات المسلحة، تتعرض الأسر والمؤسسات التربوية والدينية إلى الانهيار أو التهجير أو التهميش، مما يؤدي إلى:
- فقدان الطفل لمرجعيته الأساسية كالأب أو الأم أو المدرسة أو القيم المجتمعية.
- نشوء أنماط سلوكية عنيفة وعدوانية نتيجة التعرض المستمر للعنف.
- ضعف الانتماء الوطني أو القيمي نتيجة التشرذم أو الانقسام المجتمعي.
- تشكّل هويات هامشية أو طائفية تغذّيها أيديولوجيات متطرفة أو انتماءات ضيقة.
2. الهجرة والصدمة الثقافية
تخلق الهجرة، سواء كانت قسرية بسبب الحروب أو طوعية بحثًا عن فرص أفضل، صراعات معقدة في عملية التنشئة، حيث:
- يصطدم الأبناء بقيم المجتمع الجديد التي قد تختلف جذريًا عن قيمهم الأصلية.
- تعاني الأسرة من فقدان تأثيرها التقليدي بسبب اختلاف اللغة أو ضعف اندماج الوالدين.
- تظهر حالات الازدواج الثقافي لدى الأبناء الذين يجدون أنفسهم بين ثقافتين متضادتين، دون شعور بالانتماء الكامل لأي منهما.
- تؤدي هذه التحديات أحيانًا إلى الاغتراب الاجتماعي أو الهوية المشوشة.
3. الانقسام الثقافي والتفكك المجتمعي
تُسهم النزعات الهوياتية الضيقة - سواء على أساس طائفي أو عرقي أو أيديولوجي - في خلق مجتمعات متصدعة. وتؤثر هذه الانقسامات على التنشئة من خلال:
- تلقين الأطفال قيمًا إقصائية ضد "الآخر المختلف".
- تراجع القيم المشتركة، مثل التسامح والانتماء والمواطنة.
- غلبة التنشئة الأيديولوجية المغلقة بدل التنشئة المدنية المنفتحة.
4. ضعف دور الدولة والمؤسسات التربوية
في ظل النزاعات والهجرة والانقسام الثقافي، غالبًا ما تضعف قدرة الدولة على توفير تعليم موحّد أو إعلام مسؤول أو حماية الأسرة. ونتيجة لذلك:
- تنمو مؤسسات بديلة (دينية، طائفية، حزبية...) تؤدي دور التنشئة وفق أجندات ضيقة.
- تُهمّش المدرسة بوصفها فضاء للتماسك الاجتماعي، وتفقد قدرتها على تقوية القيم الوطنية الجامعة.
تدخل النزاعات والهجرة والانقسام الثقافي التنشئة الاجتماعية في أزمة مركبة، تمس جوهر وظيفتها في إعداد أفراد متوازنين، مندمجين، ومنتمين. إنها أزمة لا تتعلق فقط بالمؤسسات، بل بالهوية واللغة والانتماء والثقة بالنفس والمجتمع. ولهذا، فإن تجاوزها يتطلب استراتيجيات شاملة لإعادة بناء الفضاءات التربوية والاجتماعية، وتعزيز القيم المشتركة، ومواجهة الإقصاء والتطرف بخطاب تربوي منفتح يراعي تعددية الواقع ويستعيد إنسانية التنشئة.
الخاتمة
تعد التنشئة الاجتماعية إحدى الركائز الأساسية في بناء شخصية الإنسان وتشكيل سلوكه وقيمه وهويته منذ مراحل الطفولة الأولى وحتى الرشد. فهي عملية معقدة ومتداخلة، تتفاعل فيها عوامل نفسية، اجتماعية، ثقافية، ومؤسساتية لتؤسس للفرد موقعه داخل المجتمع، وتزوده بالمفاتيح اللازمة لفهم ذاته وتحديد علاقاته مع الآخرين. من خلال هذا البحث، اتضح أن التنشئة ليست عملية عفوية أو بيولوجية فقط، بل هي مسار اجتماعي مدروس، يتأثر بالبنى الثقافية والاقتصادية والسياسية السائدة، ويتغير معها باستمرار.
تناولنا في هذا البحث مجموعة من المفاهيم الجوهرية التي توضح طبيعة التنشئة، بدءًا من تعريفها وأهدافها، مرورًا بمراحلها (من الطفولة إلى الرشد)، وأنواعها (أولية، ثانوية، مستمرة)، وصولًا إلى الوظائف التي تؤديها في حفظ التوازن الاجتماعي وتعزيز الانتماء والهوية. كما استعرضنا عددًا من نظريات التنشئة الاجتماعية التي قدمت تفسيرات متعددة لهذه الظاهرة، من بينها: النظرية البنيوية الوظيفية، التفاعلية الرمزية، التحليلية النفسية، السلوكية، التعلم الاجتماعي، النظرية النقدية، والنظرية النسوية، وقد بيّنت كل منها آليات مختلفة لفهم كيفية انتقال القيم والسلوكيات من المجتمع إلى الفرد.
ولم يغفل البحث الإشارة إلى التحولات العميقة التي عرفتها عملية التنشئة في ظل التغيرات الاجتماعية الكبرى، مثل تغير أدوار الأسرة، صعود وسائل الإعلام والتكنولوجيا، تأثير العولمة، إلى جانب الأزمات التي تواجه التنشئة في بيئات النزاع والهجرة والانقسام الثقافي.
ويمكن القول إن التنشئة الاجتماعية لم تعد حكرًا على مؤسسة واحدة، بل باتت مسؤولية جماعية تتقاسمها الأسرة، المدرسة، الإعلام، الأصدقاء، الجماعات المرجعية، والمؤسسات الدينية والمدنية. ومع ذلك، تبقى الأسرة، رغم التحولات، هي الخلية الأولى التي تنطلق منها عملية التكوين الأولي للقيم، مما يستدعي تقويتها ودعمها في مواجهة التحديات المعاصرة.
وختامًا، فإن الإشكال الأكبر الذي بات يطرح اليوم في مجال التنشئة الاجتماعية هو: كيف نوازن بين المحافظة على الخصوصيات الثقافية والتقاليد من جهة، والانفتاح على المعايير العالمية والحداثة من جهة أخرى؟ وكيف يمكن إعداد الفرد ليكون فاعلًا اجتماعيًا قادرًا على التكيف والنقد في آن واحد؟ إنها أسئلة مفتوحة تفرض على الباحثين والمربين والمجتمع ككل ضرورة إعادة التفكير في أنماط التنشئة، ومضامينها، وأدواتها، بما ينسجم مع متطلبات العصر وتحولات الواقع.
قائمة المراجع
1.عبد الباسط محمد حسن، علم الاجتماع التربوي، دار الفكر العربي، القاهرة.
2.سعيد إسماعيل علي، أسس التنشئة الاجتماعية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
3.سهير القلماوي، علم الاجتماع الثقافي، دار المعرفة، بيروت.
4.محمد الجوهري، علم الإنسان الاجتماعي والثقافي، مكتبة الأنجلو المصرية.
5.كمال التابعي، النظريات الاجتماعية الحديثة، دار الوفاء، الإسكندرية.
6.حنان الجوهري، التنشئة الاجتماعية في مجتمع متغير، دار الثقافة للنشر.
7.مصطفى الخشاب، الأسرة والمجتمع، دار المعارف، القاهرة.
8.سمير نعيم أحمد، العولمة والتنشئة الاجتماعية، مركز دراسات الوحدة العربية.
مواقع إلكترونية
1.موقع مركز دراسات الوحدة العربية
يحتوي على دراسات معمقة في مجالات علم الاجتماع، منها دراسات عن التنشئة الاجتماعية في الوطن العربي.
رابط: https://caus.org.lb
2.منصة المنهل الرقمية
توفر كتبًا وأطروحات باللغة العربية في مجالات التربية وعلم الاجتماع، بما في ذلك موضوعات حول التنشئة الاجتماعية
ومؤسساتها.
رابط: https://www.almanhal.com
3.موقع أكاديمية البحث العلمي المصرية - بنك المعرفة المصري
يضم مقالات وكتبًا أكاديمية باللغة العربية في مجال علم الاجتماع والتربية.
رابط: https://www.ekb.eg
4.موقع المجلة الجزائرية للأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية
ينشر مقالات علمية محكمة حول موضوعات مثل التنشئة، الهوية، التغير الاجتماعي... إلخ.
رابط: http://revues.univ-ouargla.dz
5.موقع reseau socio الفرنسي - القسم العربي
يتضمن مقالات تحليلية وبحوث مترجمة حول التنشئة الاجتماعية والنظريات السوسيولوجية المرتبطة بها.
رابط: https://arabia.reseau-socio.org
6.موقع قاعدة معرفة الرقمية - دار المنظومة
يحتوي على بحوث عربية أكاديمية منشورة في مجلات معتمدة حول التنشئة الاجتماعية وعلاقتها بالمؤسسات والقيم.
اترك تعليق جميل يظهر رقي صاحبه